وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُشَرِّكَانِهِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَرَأَيْت مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا مِنْهُمْ» هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فِي مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ (أَحَدُهَا) وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الطَّبْعُ السَّلِيمُ الْمُهَيَّأُ لِقَبُولِ الدِّينِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْقَابِلِ عَلَى الْمَقْبُولِ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ هِيَ الْخِلْقَةُ يُقَالُ فَطَرَهُ أَيْ خَلَقَهُ وَخِلْقَةُ الْآدَمِيِّ فَرْدٌ مِنْ ذَلِكَ وَتَهَيَّأَ لِقَبُولِ الدِّينِ وَصْفٌ لَهَا فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ وَذَلِكَ الْمَقْبُولُ وَهُوَ الدِّينُ أَمْرٌ رَابِعٌ فَاسْمُ الْفِطْرَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مُسْلِمًا بِالْقُوَّةِ لِأَنَّ الدِّينَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ حَقٌّ مُجَاذِبٌ لِلْعَقْلِ غَيْرُ نَاءٍ عَنْهُ.
وَكُلُّ مَوْلُودٍ خُلِقَ عَلَى قَبُولِ ذَلِكَ وَجِبِلَّتِهِ وَطَبْعِهِ وَمَا رَكَّزَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْعَقْلِ لَوْ تُرِكَ لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَارِقْهُ إلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ لِآفَةٍ مِنْ آفَاتِ الْبَشَرِ وَالتَّقْلِيدِ كَمَا يَعْدِلُ وَلَدُ الْيَهُودِيِّ وَوَلَدُ النَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ بِتَعْلِيمِ آبَائِهِمْ وَتَلْقِينِهِمْ الْكُفْرَ لِأَوْلَادِهِمْ فَيَتَّبِعُوهُمْ وَيَعْدِلُونَ بِهِمْ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي فَطَرَهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْرَارِ بِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ يُولَدُ إلَّا وَهُوَ يُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ صَانِعًا وَإِنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ أَوْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ تَقَارُبٌ فِي شَيْءٍ وَتَفَاوُتٌ فِي شَيْءٍ وَالْأَوَّلُ خَيْرٌ مِنْهُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْفِطْرَةَ مَا قَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَقَالُوا الْفِطْرَةُ الْبُدَاءَةُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: ٢٩] وَنُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ إلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ وُلِدَ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ تَصِيرُ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ إلَيْهِ وَذَكَرُوا حَدِيثًا «إنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا» وَهَذَا الْحَدِيثُ انْفَرَدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَكَانَ شُعْبَةُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً وَالثَّانِي خَيْرٌ مِنْهُ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّ الْفِطْرَةَ الْإِسْلَامُ وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَعَامَّةِ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا خُلِقَ الطِّفْلُ سَلِيمًا مِنْ الْكُفْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute