هكذا أدرك الْمُحَدِّثُّوْنَ - منذ الصدر الأول - ما للإسناد من أهمية بالغة في الصناعة الحديثية؛ إِذْ هُوَ دعامتها الأساسية ومرتكزها في أبحاث العدالة والضبط.
وكذلك أدرك الْمُحَدِّثُّوْنَ أنه لا يمكن نقد الْمَتْن نقدًا صحيحًا إلا من طريق البحث في الإسناد، ومعرفة حلقات الإسناد والرواة النقلة، فلا صحة لمتن إلا بثبوت إسناده.
وأعظم مثال عَلَى اهتمام المسلمين بالإسناد هُوَ ما ورثوه لنا من التراث الضخم الكبير الهائل، وما سخروا للإسناد من ثروة علمية في كتب الرجال.
والبحث في الإسناد مهم جدًّا في علم الْحَدِيْث، من أجل التوصل إلى مَعْرِفَة الْحَدِيْث الصَّحِيْح من غَيْر الصَّحِيْح، إِذْ إنّه كلما تزداد الحاجة يشتد نظام المراقبة، فعندما انتشر الْحَدِيْث بَعْدَ وفاة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - اشتد الاهتمام بنظام الإسناد، وعندما بدأ السهو والنسياق يظهران كثر الالتجاء إلى مقارنة الروايات، حَتَّى أصبح هَذَا المنهج مألوفًا معروفًا عِنْدَ الْمُحَدِّثيْنَ؛ إذْ إنه لا يمكن الوصول إلى النص السليم القويم إلا عن طريق البحث في الإسناد، والنظر والموازنة والمقارنة فِيْمَا بَيْنَ الروايات والطرق. من هنا ندرك سر اهتمام الْمُحَدِّثِيْنَ به، إذ جالوا في الآفاق ينقّرون أَوْ يبحثون في إسناد، أَوْ يقعون علَى علة أَو متابعة أَوْ مخالفة، وكتاب "الرحلة في طلب الْحَدِيْث"(١) للخطيب البغدادي خير شاهد علَى ذَلِكَ.
(١) هُوَ كتاب فريد في بابه، جمع فِيْهِ الخَطِيْب أخبارًا نادرة من أخبار العلماء في رحلاتهم من أجل الْحَدِيث الواحد، وما أشبه ذَلِكَ. وقدْ صدر الكتاب بأحاديث وآثار تدلل علَى ذَلِكَ وترغب فِيْهِ، وَقَدْ طبع الكتاب في بيروت بطبعته الأولى عام ١٩٧٥ في دار الكتب العلمية بتحقيق: د. نور الدين عتر.