وَأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيُّ: الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» أَيْ: مَطْلُ الْقَادِرِ يُحِلُّ ذَمَّهُ وَحَبْسَهُ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ ظَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ فَقَدْ مَرَّ حُكْمُهُ، وَخَرَجَ بِالْمَدِينِ قَيِّمُهُ وَوَكِيلُهُ وَنَحْوُهُمَا فِي دَيْنٍ لَمْ يَجِبْ بِمُعَامَلَتِهِمْ، وَالتَّصْرِيحُ بِوُجُوبِ الْحَبْسِ مِنْ زِيَادَةِ النَّظْمِ، (وَلَوْ) كَانَ الْمَدِينُ (أُمًّا وَأَبْ) لِلْغَرِيمِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُحْبَسُ لَهُ، إذْ لَوْ لَمْ يُحْبَسْ لَأَصَرَّ وَامْتَنَعَ عَنْ الْأَدَاءِ، فَيَعْجِزُ الْوَلَدُ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْأَصَحُّ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ هُنَا الْمَنْعُ، وَأُطْلِقَ فِي الرَّوْضَةِ فِي الشَّهَادَاتِ تَصْحِيحُهُ، وَحَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْمُعْظَمِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَلَا يُعَاقَبُ الْوَلَدُ بِالْوَلَدِ وَيُسْتَثْنَى الْمُكَاتَبُ، فَلَا يُحْبَسُ بِالنُّجُومِ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ.
وَكَذَا الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَيْنُهُ وَتَعَذَّرَ عَمَلُهُ فِي الْحَبْسِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ كَالْمُرْتَهِنِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِي نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَنْ فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّهُ، قَالَ السُّبْكِيُّ وَعَلَى قِيَاسِهِ لَوْ اسْتَعْدَى عَلَى مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَيْنُهُ وَكَانَ حُضُورُهُ لِلْحَاكِمِ يُعَطِّلُ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْضُرَ، وَلَا يُعْتَرَضُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ عَلَى إحْضَارِ الْمَرْأَةِ الْبَرْزَةِ وَحَبْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً؛ لِأَنَّ لِلْإِجَارَةِ أَمَدًا يُنْتَظَرُ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا قَالَهُ: أَنَّ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ كَالْمُسْتَأْجَرِ إنْ أُوصِيَ بِهَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَإِلَّا فَكَالزَّوْجَةِ (بِغَيْرِ إهْمَالٍ) مِنْ الْقَاضِي لِلْمَحْبُوسِ، بَلْ يُبْحَثُ عَنْهُ لِئَلَّا يَتَخَلَّدَ فِي الْحَبْسِ، وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ النَّظْمِ، وَإِذَا حُبِسَ لِجَمْعٍ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ أَوْ لِغَرِيمٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ آخَرُ حَبْسَهُ جَعَلَهُ الْقَاضِي مَحْبُوسًا لَهُمَا، وَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا (إلَى عُسْرٍ ثَبَتْ) أَيْ: وَيَسْتَمِرُّ حَبْسُهُ إلَى ثُبُوتِ إعْسَارِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ إخْرَاجُهُ حِينَئِذٍ مِنْ الْحَبْسِ عَلَى إذْنِ الْغُرَمَاءِ، وَإِعْسَارُهُ يَثْبُتُ إمَّا (بِشَاهِدَيْنِ) ، سَوَاءٌ عُهِدَ لَهُ مَالٌ بِأَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ كَشِرَاءٍ وَقَرْضٍ أَمْ لَا، (مَعْ يَمِينٍ طُلِبَتْ) أَيْ طَلَبَهَا مِنْهُ الْغُرَمَاءُ لِجَوَازِ اعْتِمَادِ الشَّاهِدَيْنِ الظَّاهِرَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبُوهَا مِنْهُ لَمْ يَحْلِفْ كَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ شَهِدَا بِتَلَفِ الْمَالِ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ لَمْ يَحْلِفْ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبَهُمَا (أَوْ بِالْيَمِينِ) أَيْ: يَمِينِهِ (حَيْثُ لَا يُعْهَدُ لَهْ مَالٌ) بِأَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ لَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ، سَوَاءٌ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ كَضَمَانٍ وَصَدَاقٍ أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَغَرَامَةِ مُتْلَفٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَمُ، وَلَوْ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ قَالَ فِي الْبَيَانِ: لَا يُحَلِّفُهُ ثَانِيًا لِثُبُوتِ إعْسَارِهِ بِالْيَمِينِ الْأُولَى.
وَمَحَلُّ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِالْمَلَاءَةِ، فَلَوْ أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ ادَّعَى الْإِعْسَارَ فَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً بِذَهَابِ مَالِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ إعْسَارُهُ لَمْ يَجُزْ
ــ
[حاشية العبادي]
قَوْلُهُ فَقَدْ مَرَّ حُكْمُهُ) أَيْ فِي قَوْلِهِ: وَمَالُ مَدْيُونٍ لُوِيَ ثُمَّ قَالَ: قُلْت: وَقَالَ غَيْرُهُ: بِخِيرَتِهِ إلَخْ (قَوْلُهُ لِأَنَّ لِلْإِجَارَةِ إلَخْ) بِخِلَافِ الزَّوَاجِ (قَوْلُهُ بِأَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ) قَدْ يُقَالُ: عَهْدُ مَالٍ لَهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لَهُ قَدْ لَا يُلْزِمُهُ الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ مَا ذُكِرَ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ لَهُ مَالٌ مَعْلُومٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ بِأَنْ بِمَعْنَى كَأَنْ. (قَوْلُهُ لَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ) قَالَ الشَّارِحُ الْعِرَاقِيُّ فَلَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ إيجَارِهِ فَلَا نَقْلَ فِيهَا قَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْأُجْرَةَ إنْ لَزِمَتْ بِسَبَبِ السُّكْنَى، فَهِيَ كَالصَّدَاقِ، وَإِنْ حَصَلَ عَقْدُ إجَارَةٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ: لَا يُقْبَلُ. (قَوْلُهُ لِحُصُولِ الْيَسَارِ بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ) وَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ، بِأَنَّ الْيَسَارَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِسَبَبِ أَنْ يُؤَجَّرَ بِأُجْرَةٍ وَمَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ.
[حاشية الشربيني]
الْمَحَلِّيِّ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ عَدَمِ التَّسْلِيمِ وَعَدَمِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ يُحِلُّ عِرْضَهُ) أَيْ بِنَحْوِ " يَا ظَالِمُ " " يَا مُمَاطِلُ " شَرْحُ م ر. (قَوْلُهُ وَنَحْوُهُمَا) كَالْوَصِيِّ م ر. (قَوْلُهُ فَبِعَجْزِ إلَخْ) رُدَّ بِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ لِلْوَالِدِ مَالٌ أَخَذَهُ الْقَاضِي قَهْرًا، وَصَرَفَهُ إلَى دَيْنِهِ وَقَضِيَّتُهُ: أَنَّهُ لَوْ أَخْفَاهُ عِنَادًا كَانَ لَهُ حَبْسُهُ لِاسْتِكْشَافِ الْحَالِ، وَهُوَ مَا اعْتَمَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي لَكِنَّ قَوْلَهُمْ: لَا يُعَاقَبُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، يَأْبَاهُ شَرْحُ م ر عَلَى الْمِنْهَاجِ. (قَوْلُهُ الْمُكَاتَبُ إلَخْ) مِثْلُهُ الْمَرِيضُ وَالْمُخْدَرَةُ وَابْنُ السَّبِيلِ، فَلَا يُحْبَسُونَ كَمَا اعْتَمَدَهُ الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَفْتَى بِهِ، بَلْ يُوَكَّلُ بِهِمْ لِيَتَرَدَّدُوا، وَلَا الطِّفْلُ أَوْ الْمَجْنُونُ وَلَا أَبُوهُمَا لِئَلَّا يَضِيعَا اهـ. شَرْحُ م ر عَلَى الْمِنْهَاجِ.
(قَوْلُهُ اسْتَعْدَى) أَيْ طَلَبَ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى (قَوْلُهُ وَكَانَ حُضُورُهُ إلَخْ) أَيْ بِأَنْ لَا يَتَيَسَّرَ لَهُ الْعَمَلُ فِي الطَّرِيقِ اهـ. ح ف. (قَوْلُهُ وَيُؤْخَذُ إلَخْ) أَقَرَّهُ م ر (قَوْلُهُ بِأَنْ لَزِمَهُ إلَخْ) لَوْ عُهِدَ لَهُ مُعَامَلَةٌ لَمْ يَلْزَمْ الدَّيْنُ فِي مُقَابَلَةِ مَالِهَا. فَهَلْ هِيَ كَمَا لَوْ عُهِدَ لَهُ مَالٌ، فَلَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْمُعَامَلَةُ أَوْ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالدَّيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَجَزَمَ م ر بِالثَّانِي، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ بَعْدَ نَقْلِهِ عَنْ إفْتَاءِ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ سم، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ قَوْلُ حَجَرٍ: إنَّ تَصْدِيقَهُ بِالْيَمِينِ مَفْرُوضٌ عَلَى الْمَنْقُولِ الْمُعْتَمَدِ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ مَالٌ أَصْلًا. (قَوْلُهُ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ) لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ. نَعَمْ مَحَلُّ ذَلِكَ فِي مَالٍ يَبْقَى أَمَّا غَيْرُهُ كَلَحْمٍ وَنَحْوِهِ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْآتِي، فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ: بِيَمِينِهِ اهـ. شَرْحُ م ر. (قَوْلُهُ طُلِبَتْ) هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ لِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ غَائِبٍ أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، وَإِلَّا لَزِمَهُ الْحَلِفُ وَإِنْ لَمْ يُطْلَبْ اهـ. حَاشِيَةُ ق ل عَلَى الْجَلَالِ. (قَوْلُهُ لَا يُحَلِّفُهُ ثَانِيًا) هَذَا إنْ ادَّعَى بِقَدْرٍ مُسَاوٍ لِمَا ادَّعَاهُ الْأَوَّلُ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ ادَّعَى بِأَقَلَّ حَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إعْسَارِهِ بِالْأَكْثَرِ إعْسَارُهُ بِالْأَقَلِّ، كَذَا يُؤْخَذُ مِنْ سم عَلَى الْمَنْهَجِ.
(قَوْلُهُ بِذَهَابِ مَالِهِ) أَيْ الَّذِي أَقَرَّ بِالْمَلَاءَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute