مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَطَعَ لِلْعَامِلِ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَقِطْعَةً مِنْ الرِّبْحِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِسَهْمٍ فِي الرِّبْحِ، وَمُقَارَضَةً وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرِّبْحِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِجْمَاعُ، وَالْحَاجَةُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: ٢٠] وَالْمَاوَرْدِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: ١٩٨] وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ بِمَالِهَا إلَى الشَّامِ، وَأَنْفَذَتْ مَعَهُ عَبْدَهَا مَيْسَرَةَ» ، وَلَهُ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ عَاقِدٌ، وَصِيغَةٌ، وَرَأْسُ مَالِ، وَعَمَلٌ وَرِبْحٌ، وَقَدْ أَخَذَ النَّاظِمُ فِي بَيَانِهَا فَقَالَ: (عَقْدُ الْقِرَاضِ يُشْبِهُ التَّوْكِيلَا) فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَاقِدٌ، وَفِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ فِي الْمَالِكِ، وَأَهْلِيَّةُ التَّوَكُّلِ فِي الْعَامِلِ، وَأَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِمَا يَنْعَزِلُ بِهِ الْوَكِيلُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ مِنْهُ وَلَا مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَيَصِحُّ مِنْ الْوَلِيِّ، وَلَوْ وَصِيًّا أَوْ حَاكِمًا، أَوْ قَيِّمَهُ وَزَادَ عَلَى الْحَاوِي يُشْبِهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَوْكِيلًا مُطْلَقًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي، وَإِذَا كَانَ يُشْبِهُ التَّوْكِيلَ.
(فَاشْتَرِطْ الْإِيجَابَ) عَلَى الْمَالِكِ (وَالْقَبُولَا) عَلَى الْعَامِلِ مَعَ التَّوَاصُلِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَفَارَقَ الْوَكَالَةَ وَالْجِعَالَةَ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِيهِ دُونَهُمَا بِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ بِخِلَافِهِمَا، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مُجَرَّدُ إذْنٍ، وَالْجِعَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ فَفِي تَفْرِيعِهِ اشْتِرَاطَ الْقَبُولِ عَلَى كَوْنِ الْقِرَاضِ يُشْبِهُ الْوَكَالَةَ تَسَمُّحٌ سَلِمَ مِنْهُ قَوْلُ الْحَاوِي: الْقِرَاضُ تَوْكِيلٌ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، أَمَّا (إيجَابُهُ) أَيْ: عَقْدِ الْقِرَاضِ فَنَحْوَ (قَارَضْت، أَوْ ضَارَبْتُ) أَوْ (خُذْ) هَذَا (وَاتَّجِرْ فِيهِ) ، أَوْ اعْمَلْ فِيهِ بِخِلَافِ خُذْهُ، وَابْتَعْ بِهِ لِاقْتِضَاءِ الْعَمَلِ الْبَيْعَ بِخِلَافِ الِابْتِيَاعِ. نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَأَقَرُّوهُ (كَذَا عَامَلْتُ) وَأَمَّا قَبُولُهُ فَكَقَبِلْتُ.
وَقَوْلُهُ: خُذْ وَاتَّجِرْ فِيهِ مِنْ زِيَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقِرَاضُ (فِي مَحْضِ نَقْدٍ) مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِخِلَافِ الْمَغْشُوشِ مِنْهُمَا، وَالْفُلُوسِ وَسَائِرِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِرَاضِ إغْرَارًا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، وَالرِّبْحَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ فَاخْتُصَّ بِمَا يَرُوجُ بِكُلِّ حَالٍ، وَتَسْهُلُ التِّجَارَةُ
ــ
[حاشية العبادي]
قَوْلُهُ: «ضَارَبَ لِخَدِيجَةَ» إلَخْ) وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ وَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُقَرَّرًا لَهُ بَعْدُ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَهَا عَلَى مُعْتَمَدِ الْمُحَقِّقِينَ نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: مِنْ أَيْنَ أَنَّهَا دَفَعَتْ إلَيْهِ نَقْدًا بِالشُّرُوطِ الْآتِيَةِ، وَأَنَّهُ وُجِدَ إيجَابٌ وَقَبُولٌ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَسْبِقُ إلَى الذِّهْنِ أَنَّهَا دَفَعَتْ إلَيْهِ عُرُوضًا، وَجَعَلَتْ لَهُ جَعْلًا عَلَى اتِّجَارِهِ فِيهَا إلَى الشَّامِ.
(قَوْلُهُ: وَعَمِلَ وَرَبِحَ) قَدْ يُسْتَشْكَلُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقِرَاضِ الْعَقْدُ الْمَخْصُوصُ، وَالْعَمَلُ وَالرِّبْحُ خَارِجَانِ فَكَيْفَ يُعَدَّانِ أَرْكَانَهُ؟ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْتِزَامُهُمَا وَاشْتِرَاطُهُمَا لَا أَنْفُسُهُمَا فَلْيُتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَتَصَرَّفُ) أَيْ: الْعَامِلُ وَقَوْلُهُ مِنْهُ أَيْ: مِنْ الْعَامِلِ (قَوْلُهُ: بِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ) خَرَجَتْ الْوَكَالَةُ. (قَوْلُهُ: يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ) خَرَجَتْ الْجَعَالَةُ. (قَوْلُهُ: تَسَمُّحٍ) إذْ التَّوْكِيلُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولٌ، وَكَتَبَ أَيْضًا قَدْ يُجَابُ بِأَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: يُشْبِهُ التَّوْكِيلَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ تَوْكِيلًا كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ تَوْكِيلًا، وَإِنْ أَشْبَهَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ إذْ لَيْسَ تَوْكِيلًا حَتَّى يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ
[حاشية الشربيني]
قَوْلُهُ: يَضْرِبُ بِسَهْمٍ) أَيْ: يُحَاسِبُ بِهِ. اهـ ع ش. (قَوْلُهُ: لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرِّبْحِ) أَيْ: فِي أَصْلِهِ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي مِقْدَارِهِ. اهـ ع ش عَلَى م ر. (قَوْلُهُ: وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي) عَبَّرَ بِهِ لِعَدَمِ صَرَاحَةِ الدَّلِيلَيْنِ فِي الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ شَمِلَاهُ، وَصَحَّ الِاحْتِجَاجُ مِنْ حَيْثُ عُمُومُهُمَا لَهُ كَمَا فِي الْمَدَابِغِيِّ. اهـ جَمَلٌ لَكِنْ قَالَ حَجَرٌ فِي حَوَاشِي ش الْإِرْشَادِ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدَّلِيلِ فِي شَيْءٍ، وَلَعَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعَامِّ بَلْ مِنْ الْمُطْلَقِ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ تَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَخْ) فِي ق ل عَلَى الْجَلَالِ الْوَجْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مُقَارِضًا؛ لِأَنَّ خَدِيجَةَ لَمْ تَدْفَعْ لَهُ مَالًا، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَنْهَا فَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِجُعْلٍ. اهـ. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا فِي السِّيَرِ مِنْ أَنَّهَا اسْتَأْجَرَتْهُ بِقَلُوصَيْنِ. اهـ. فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ دَلِيلَ صِحَّتِهِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقِيَاسَهُ عَلَى الْمُسَاقَاةِ كَمَا فِي الْمُحَلَّيْ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْمُسَاقَاةِ مَطْعُونًا فِيهِ.
(قَوْلُهُ: أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ إلَخْ) فَيَصِحُّ مِنْ الْأَعْمَى، وَيُوَكِّلُ فِي التَّعْيِينِ وَالْإِقْبَاضِ. اهـ ق ل عَلَى الْجَلَالِ (قَوْلُهُ: وَلَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ مِنْهُ) أَيْ: بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ بِإِذْنِهِ لِيَنْسَلِخَ هُوَ مِنْ الْقِرَاضِ. (قَوْلُهُ: وَفَارَقَ الْوَكَالَةَ إلَخْ) أَيْ: وَالشَّرِكَةَ أَيْضًا حَيْثُ كَفَى الْإِذْنُ فِي التَّصَرُّفِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَسُكُوتُ الْآخَرِ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ فِي الشَّرِكَةِ وَكِيلٌ. (قَوْلُهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ) قَالَ حَجَرٌ فِي حَوَاشِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُتَمَلِّكٌ لِبَعْضِ الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، فَصَارَ عَقْدُهُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ كَالْإِجَارَةِ. (قَوْلُهُ: إيجَابُهُ إلَخْ) فَلَا يَكْفِي الْفِعْلُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ أَشْبَهَ الْوَكَالَةَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ. اهـ ق ل وَم ر، وَتَقَدَّمَ فِي الشَّارِحِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَغْشُوشِ) أَيْ: بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ غِشُّهُ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ اهـ م ر مَعْنًى. اهـ سم عَلَى الْمَنْهَجِ، فَدَرَاهِمُ مِصْرَ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ لَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ عَلَيْهَا، وَنَظَرَ فِيهِ ع ش، وَاسْتَوْجَهَ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَدَمِ التَّمَيُّزِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، وَيُوَافِقُهُ بَحْثُ ق ل فِيمَا نُقِلَ عَنْ م ر. اهـ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُرْجَانِيِّ الْآتِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالرَّوَاجِ فَحَرِّرْهُ (قَوْلُهُ: إنَّمَا جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ) فَهُوَ رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُنْتَقَلٌ إلَيْهِ سَهْلٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِانْتِقَالِ فِي تَعْرِيفِ الرُّخْصَةِ الِانْتِقَالَ بِالْفِعْلِ، بَلْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ مَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ كَمَا نَبَّهْنَا لِخُرُوجِهِ عَنْ قِيَاسِ الْإِجَارَاتِ، فَانْدَفَعَ مَا قِيلَ: إنَّ كَوْنَهُ رُخْصَةً يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا ثُمَّ تَغَيَّرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute