وَكَقَوْلِهِ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْحَلَالِ أَبْغَضَ إلَى اللَّهِ مِنْ الطَّلَاقِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
وَالِاحْتِجَاجُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجَعَ سَوْدَةَ أَنْكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَقَالَ: لَمْ يُطَلِّقْهَا قَطُّ، وَلِلطَّلَاقِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: مُطَلِّقٌ وَصِيغَةٌ وَقَصْدٌ لِلطَّلَاقِ وَزَوْجَةٌ وَكُلُّهَا تُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي. (صَحَّ الطَّلَاقُ مِنْ) زَوْجٍ، وَلَوْ بِنَائِبِهِ (مُكَلَّفٍ) مُخْتَارٍ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ تَنْجِيزًا وَلَا تَعْلِيقًا، وَإِنْ وُجِدَتْ الصِّفَةُ بَعْدَ الْأَهْلِيَّةِ إلَّا السَّكْرَانَ كَمَا سَيَأْتِي (وَفِي هَزْلٍ سِوَى النِّكَاحِ) أَيْ: وَصَحَّ فِي حَالِ الْهَزْلِ غَيْرُ النِّكَاحِ (مِنْ) أَيِّ (تَصَرُّفِ) ، كَانَ طَلَاقٌ أَوْ غَيْرُهُ، كَمَا يَصِحُّ فِي حَالِ الْجَدِّ، فَلَوْ قَالَتْ لَهُ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالِ أَوْ الِاسْتِهْزَاءِ: طَلِّقْنِي فَقَالَ: طَلَّقْتُك وَقَعَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا لِلْخَبَرِ الْآتِي؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَعَدَمُ رِضَاهُ بِوُقُوعِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لَا أَثَرَ لَهُ لِخَطَأِ ظَنِّهِ، كَمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِيمَا لَوْ طَلَّقَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فِي حَالِ الْهَزْلِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ احْتِيَاطٍ، وَهَذَا وَجْهٌ جَرَى عَلَيْهِ الْحَاوِي تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ.
وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ كَمَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ: الْأَصَحُّ) كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ (فِي النِّكَاحِ الْعَقْدُ) لَهُ صَحِيحٌ (بِالْهَزْلِ، إذْ هَزْلُ النِّكَاحِ جِدُّ) لِلنَّصِّ عَلَيْهِ فِي خَبَرِ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَحَّحَ الْحَاكِمُ إسْنَادَهُ، وَحُكْمُ غَيْرِ الثَّلَاثِ حُكْمُهُمَا كَمَا يُفْهَمُ بِالْأَوْلَى، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأَبْضَاعِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَزِيدِ اعْتِنَاءٍ (وَلَوْ يَظُنُّهَا) أَيْ زَوْجَتَهُ (سِوَاهَا) لِكَوْنِهَا فِي ظُلْمَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي مَحَلِّهِ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالزَّوْجِيَّةِ عِنْدَ قَصْدِ الْخِطَابِ بِاللَّفْظِ الصَّالِحِ لِلْإِيقَاعِ لَا يَمْنَعُ الْإِيقَاعَ، وَفِي مَعْنَى الظَّنِّ النِّسْيَانُ وَالْجَهْلُ كَأَنْ قَبِلَ لَهُ أَبُوهُ فِي صِغَرِهِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي كِبَرِهِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ لَا يَدْرِي فَخَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ، أَمَّا نُفُوذُهُ فِي الْبَاطِنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ بَنَاهُمَا الْمُتَوَلِّي عَلَى صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَجْهُولِ، وَقَضِيَّتُهُ: تَرْجِيحُ الْمَنْعِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ غَيْرِهِ النُّفُوذُ
. (أَوْ فَسَقْ) صِفَةٌ لِمَعْطُوفٍ عَلَى مُكَلَّفٍ أَيْ صَحَّ الطَّلَاقُ مِنْ مُكَلَّفٍ أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ فَسَقَ (بِالسُّكْرِ) أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُزِيلُ الْعَقْلَ، كَدَوَاءِ مُجَنِّنٍ بِلَا حَاجَةٍ، فَيَصِحُّ طَلَاقُهُ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ لِعِصْيَانِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ فَجُعِلَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ، وَعَدَلْت عَنْ عَطْفِ ذَلِكَ عَلَى يَظُنُّهَا الْمُقْتَضِي لِكَوْنِ السَّكْرَانِ مُكَلَّفًا إلَى مَا ذَكَرْته لِيُفِيدَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَانْتِفَاءُ تَكْلِيفِهِ لِانْتِفَاءِ الْفَهْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَنَحْوُهَا، وَنُفُوذُ طَلَاقِهِ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَأَجَابَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى تَكْلِيفِ السَّكْرَانِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: ٤٣] بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ هُوَ فِي أَوَائِلِ السُّكْرِ لِبَقَاءِ عَقْلِهِ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِ
ــ
[حاشية العبادي]
قَوْلُهُ إلَّا السَّكْرَانَ) أَيْ الْمُتَعَدِّيَ (قَوْلُهُ وَفِي هَزْلٍ) أَيْ وَصَحَّ فِي هَزْلٍ، وَقَوْلُهُ سِوَى النِّكَاحِ فَاعِلٌ. (قَوْلُهُ قُلْت: الْأَصَحُّ فِي النِّكَاحِ الْعَقْدُ) يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ بِمَعْنَى الِانْعِقَادِ خَبَرَ الْأَصَحُّ وَجَعْلُ بِالْهَزْلِ صِلَةَ الْعَقْدُ وَالْبَاءِ لِلْمُصَاحَبَةِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ صَحِيحٍ، فَالْمَعْنَى الْأَصَحُّ فِي النِّكَاحِ انْعِقَادُهُ مَعَ الْهَزْلِ
(قَوْلُهُ وَأَجَابَ إلَخْ) أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ، فَإِنَّ مَنْ فِي أَوَائِلِ السُّكْرِ بَاقِي الْعَقْلِ لَا يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣]
[حاشية الشربيني]
لِلَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ كَهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ لَا مُطْلَقًا، إذْ لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ قَاصِدًا لَفْظَهُ مَعَ فَهْمِ مَعْنَاهُ وَقَعَ، وَإِنْ قَالَ قَبْلَهُ: لَسْت أُرِيدُ إيقَاعَهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ مَعْنَاهُ كَمَا فِي حَالِ الْهَزْلِ، بَلْ لَوْ قَالَ: مَا قَصَدْته لَمْ يَدِيَنْ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى عَدَمِ احْتِيَاجِ الصَّرِيحِ إلَى نِيَّةٍ، بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ وَعَلَى اعْتِبَارِ قَصْدِ الْمَعْنَى فَارَقَتْهُ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَصْدُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى أَيْ: وَفَهْمُهُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا مَعَ ذَلِكَ قَصْدُ الْإِيقَاعِ اهـ. شَرْحُ الْإِرْشَادِ لِحَجَرٍ ثُمَّ رَأَيْته فِي شَرْحِ الرَّوْضِ بِالْحَرْفِ وَقَوْلُهُ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ ظَاهِرُ إلَخْ أَيْ بِحَيْثُ يُقْبَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ: مَا قَصَدْت الْمَعْنَى ثُمَّ رَأَيْت مَا يَأْتِي فِي الشَّرْحِ.
(قَوْلُهُ وَفِي هَزْلٍ) قَالَ حَجَرٌ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ قَصْدَ الْمَعْنَى لَا يُعْتَبَرُ، إلَّا عِنْدَ عُرُوضِ صَارِفٍ فَيَقَعُ إجْمَاعًا، وَإِنْ هَزَلَ بِهِ بِأَنْ قَصَدَ لَفْظَهُ دُونَ مَعْنَاهُ أَوْ لَعِبَ بِهِ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَدِنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْرِفْ اللَّفْظَ لِغَيْرِ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ إرَادَةٍ مِنْ وَثَاقٍ، وَقَوْلُ الرُّويَانِيِّ عَنْ الْبُوَيْطِيِّ مَنْ صَرَّحَ بِنَحْوِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ وَلَمْ يَنْوِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَاطِنًا لِحَدِيثِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ضَعِيفٌ اهـ. (قَوْلُهُ وَلَوْ يَظُنُّهَا سِوَاهَا) وَالْوُقُوعُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلَوْ مَعَ التَّعْلِيقِ إنْ لَمْ تَكُنْ مُجَاوِرَةً أَيْ: مُنَازِعَةً فِي كَوْنِهَا زَوْجَتَهُ أَوْ لَا، وَإِلَّا فَهُوَ حَلِفٌ فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ خَالَفَ الْوَاقِعَ اهـ. ق ل عَلَى الْجَلَالِ (قَوْلُهُ أَوْقَع الطَّلَاقَ) أَيْ قَاصِدًا لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ حِلُّ الْعِصْمَةِ، بِخِلَافِ مَنْ طَلَبَ مِنْ قَوْمٍ فِيهِمْ امْرَأَتُهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطُوهُ وَلَا يَعْلَمُ بِهَا فَقَالَ: طَلَّقْتُكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ لِعَدَمِ قَصْدِهِ حِلَّ الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ لَا يَدْخُلْنَ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ، إلَّا بِالتَّغْلِيبِ وَلَمْ يَقْصِدْهُ اهـ. مِنْ شَرْحِ الرَّوْضِ. (قَوْلُهُ النُّفُوذُ) هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِبْرَاءِ الِاحْتِيَاطُ لِلْإِبْضَاعِ فَرَاجِعْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute