للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إثبات حقيقة للسحر ما يقتضي أن يَجْري على يد السَّحرة ما هو من قبيل ما يعجز عنه الإنسُ والجن، لذا تجده في موضعٍ آخر يحصر أَثر السِّحر فيما لا يخرجُ عن الوجه الّذي يحتال أحدنا فيه من أَنواع المضرة، فأَنكر بذلك استطاعة السَّاحر أَن يُلحِق الضّرر بالمسحور على وجه لا يُباشر فيه الساحرُ المسحور بالأَذى، و لمَّا كان حديثُ عائشةَ دليلٌ بيِنٌ على خلاف ما ذهب إليه حيث دلَّ الحديثُ على تأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسحر لَبِيْدٍ دون مُباشرة من لبيد اليهودي له =سارع القاضي عبد الجبَّارُ إلى إنكار الحديث وعدم قَبوله.

وفي ذلك يقول عند تفْسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (٤)} الفلق

(وهذا القولُ لا يدلُّ على أَنَّ النَّفاثاتِ في العُقَدِ، اللاتي كن يعقدن على الخيوط وينفُثن عليه، كُنّ ضارَّاتٍ بالنَّاس على غير الوجه الذي يصحُّ من أَحدنا أَن يحتال فيه من أَنواعِ المَضرَّةِ؛ على ما تقوله الحشوية في أَنَّهنّ كن يسحرن النَّاس، وأَنَّهن سحرن النبي صلى الله عليه، ... فلا يدلُّ ذلك على أَنَّ للعبدِ سَبيلًا إلى ما يذكرونه في السِّحرِ) (١)

وقال أبو منصور الماتريدي: (الأَصلُ أنَّ الكهانة محمولٌ أَكثرها على الكذب والمُخادعة والسِّحر على الشُّبه والتخييل) (٢)

بل بالغ أَبوبكر الجصَّاص -عفا الله عنه- فنسب الحديثَ إلى كونه من وضع المُلحدين!! كلُ ذلك بناء على أَصله الفاسد؛ حيث ظنّ أنَّ في إثبات أَن للسحر حقيقة وأَثرًا يستلزمُ إبطال معجزات الأنبياء عليهم السَّلام؛ لتعذُّر الفرق حينئذٍ بين المعجزة والسحر، وأنَّ ذلك يقتضي أنّهما من باب واحد. لذا يقولُ مقرِّرًا ذلك: (وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال فيه: أنه يتخيل لي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله، وأنَّ امرأةً يهودية سحرته في جُف طلعة ومشط ومشاقة (٣) حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج وزال عن النبي عليه السلام ذلك العارض، وقد قال الله تعالى مكذبًا للكفار فيما ادعوه من ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال جلَّ من قائلٍ: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٨)} الفرقان. ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبًا بالحشو الطغام واستجرارًا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأنَّ جميعه من نوع واحدٍ، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩)} طه فصدّق هؤلاء من كذّبه الله وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله) (٤)

الثَّاني: أنَّ في إثبات الحديث زَعْزعةُ الثِّقةِ بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، خصوصًا فيما يتعلق بأْمرِ التبليغ؛ إذ لو جُوِّز أنَّه سُحرَ، وأنَّه كان يُخيّلُ إليه أنه يفعل الأَمر، ولا يفعله فليس هناك عندئذ ما يمنع من جريان هذا التخييل فيما يبلّغُهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - = فتسقطُ عند ذلك الثِّقةُ بالدِّين.


(١) "المصدر السّابق" (٧٠٨)
(٢) "التوحيد"للماتريدي (٢٠٩)
(٣) وردت في إحدى الرِّوايات بهذا اللفظ، و المَشاقة: وهي الواحدة من مشاق الكتَّان، وقيل هي: المشاطة من الشَّعر =انظر: "المفصح المفهم"لابن هشام الأنصاري (٢٤١)، "المفهم"للقرطبي (٥/ ٥٧٢)
(٤) "أحكام القرآن"للجصَّاص (١/ ٧٠)

<<  <   >  >>