فتبيّن بَعْدُ ما انطوى عليه حديث المحاجّة من الأصول العظيمة في هذا الباب التي قام الإجماع عليها؛ إلا أَنَّ هناك قَدْرًا من الحديث جالت فيه فهوم أهل العلم - رحمهم الله -؛ وهو حقيقةُ ما وقع عليه لَوْم موسى، وحقيقةُ ما احتج به آدم عليهما السلام. ومنشأ الخلافِ - والله أعلم - أَمران:
الأوَّل: أنَّ سائرَ الرِّوايات وقع فيها ذكر خطيئة آدم الواقع في سياق لوم موسى عليه السلام له.
الآخر: أَنَّ في الرِّواية التي تفرّدَ بها مُسلمٌ، احتجاج آدم - عليه السلام - بالقدر على الذنب.
وحاصل هذه الأنظار تتمحور في ثلاثة أنظار:
النظرُ الأوّل: أنّ موسى لامَ آدم عليهما السلام على الذّنْبِ. وأرباب هذا النظر تَشعّبت أقاويلهم في وجه غَلَبة آدم عليه السلام بالحُجَّةِ، على أقوال:
القول الأوَّل: أَنَّ آدم احتج بالقدر على الخطيئة، وهذا خاص به؛ لأَنَّ اللومَ حاصلٌ بعد التَّوبةِ، وقبولِها =فحَسُن من آدم هذا الاحتجاج، ولا يصح من غيره؛ لأنه لا يعلم أقُبِلت توبته أم لا = وهذا القول، ذهب إليه الإمام القنازعي، وتلميذه ابن عبد البر -رحمهما الله تعالى-. وفي تقرير هذا القول، يقول القنازعي:(وإنما صَحّت الحُجّةُ في هذه المسألة لآدم على موسى؛ من أجل أن الله عز وجل قد غفر لآدم ذنبه، وأما غيره من النَّاس فلا يحتج على معصية؛ بأن يقول: إن الله قد قدّرها عَليَّ؛ إذ لا يدري كيف ينجو منها في الآخرة .. فكلُّ مَنْ لم يَعْلم هل غُفِرَ ذنْبُهُ أم لم يغفر؟ لم تقم له حجة؛ بأن يقول: إنّ الله قد قدَّره عليَّ)(١) .
فاللوم عند أصحاب هذا القول كان على نفس المعصية كما يبدو، فكان الاحتجاج بالقدر عليها.
(١) "تفسير الموطأ" (٢/ ٧٤٠) . و انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (١٤/ ٣٧٣) .