للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[درجات الناس في الموافقة لله عز وجل]

قال رحمه الله تعالى: [وهم في ذلك على درجات: فإن كان نبياً كان له من الموافقة لله ما ليس لغيره، والمرسلون فوق ذلك، وأولو العزم أعظم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة العظمى في كل مقام.

فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ، سواء كان واجباً أو مستحباً].

وصل الشيخ إلى النتيجة التي يريد، وهي قرب المؤمنين من ربهم مع تفاوتهم، فأقربهم الأنبياء، وهذا نوع من الاتحاد، وليس اتحاداً كلياً، لا، بل قرب القلوب من الله عز وجل، فقرب القلوب من الله عز وجل كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الإحسان: (هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا لا شك أنه قرب القلب المؤمن من الله عز وجل بقدر أعماله وأحواله القلبية والعملية، فإذا قويت أحواله القلبية وقويت أعمال الجوارح بخصال الإيمان قرب من ربه، وإذا شعر بنوع من الاتحاد الذاتي والاتحاد العقلي والروحي فإنما هو اتحاد القرب من الله عز وجل، فهذا نوع تقتضيه معاني اللغة وهو الاتحاد السائغ، أما المعنى البدعي والكفري الذي يقتضي الاتحاد الذاتي، ويقتضي الاندماج والمخالطة بين الخالق والمخلوق بأي نوع من أنواع المخالطة، فلا شك أن هذا إساءة إلى الله عز وجل، وسوء أدب مع الله وسوء تصور مبني على توهمات وعقائد باطلة، توارثها هؤلاء الاتحادية والوحدوية وغيرهم، توارثوها من الفلاسفة التالفة عقائدهم ومن الأمم الضائعة في عقائدها، ومن الاتجاهات الشركية والبدعية عند الأمم الأخرى، فإنها هي التي تعتقد هذه الاعتقادات الباطلة في معنى الحلول والاتحاد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مثل هذا جاءت نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]].

يعني: أهل الاتحاد ووحدة الوجود كـ ابن عربي وغيره ساقوا هذا النص على أنه دليل على مذهبهم؛ لأنهم ما فطنوا المعنى الشرعي، ولأنهم زاغت قلوبهم ومالت إلى المعنى البدعي، مع أنه لا شك عند المخاطب أن بيعة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم لا تعني المصافحة المباشرة بينهم وبين الله عز وجل، إنما تعني المعاني الأخرى، أي: أنهم سلموا قلوبهم وأمرهم لدين الله، وخضعوا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الخضوع -والذي شعاره البيعة- بمثابة المبايعة المباشرة لله عز وجل، لكن لا بعينها، فإن الله عز وجل أعظم وأجل من أن يختلط بخلقه على النحو الذي يتصوره هؤلاء المبطلون.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:٦٢].

وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:٨٠].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:٥٧].

وقال تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:٢٤].

وقال تعالى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:١].

ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام -إن ثبت هذا اللفظ عنه-: (أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي) ونحو ذلك].

هذه اللفظة مشكلة في الحقيقة، يعني: التعبير عن الله عز وجل بالأب هذا يؤيد النصارى في اعتقادهم بالأبوة والبنوة بين عيسى وبين الله عز وجل، تعالى الله عما يزعمون، والله عز وجل أنكر ذلك، ولا شك أن هذا مما تنكره البدائه والعقول والفطر السليمة، فضلاً عن أن الله حكم بأنه شرك، فهذا المعنى عندما تأملته وجدت أنه راجع إلى الترجمات الطويلة التي تعرض لها الإنجيل والتوراة، وتعرضت لها النصوص المأثورة عن بني إسرائيل، والترجمات يعتريها النقص والانحراف المقصود، فإنه لما دخل قسطنطين ملك اليونان والرومان دين النصرانية فرض عليهم الشرك، فتحولت معاني النصوص الشرعية عندهم والآثار الشرعية إلى الألفاظ الشركية، قصداً وعمداً.

أيضاً هناك سبب آخر قد لا يكون مقصوداً عند بعض المترجمين، وهو أن المترجمين من لغة إلى لغة، لما أرادوا أن يحولوا كلمة الرب من لغة إلى لغة، فهموا منها جانباً من جوانب الربوبية، وهو أن من معاني الربوبية لله عز وجل أنه المربي، ففهم بعضهم كلمة (مربي) أباً؛ لأن أصل المربي هو الأب، فتحولت في أذهانهم مع الجهل ومع تراكمات الخرافات إلى جزء من المعاني اللغوية، وأخذوا الجانب الباطل من هذه التفسيرات.

إذاً: فالذي يوافق ما كان عليه المتأخرون من نصارى من اعتقاد البنوة والأبوة بين الله عز وجل وبين عيسى عليه السلام، أنهم ترجموا الرب إلى الأب؛ لوجود معنى من المعاني المشتركة، وهو أن من معاني الرب عز وجل أنه المربي، وأيضاً من صفات الأب أنه مربي، فأخذوا هذه اللفظة اللغوية الجزئية فجعلوها هي الأصل، فترجموا الرب بمعنى الأب.

وهناك أسباب أخرى أيضاً يطول فيها الكلام، لكن هذه في نظري أبرز الأسب

<<  <  ج: ص:  >  >>