[ظن طائفة من الاتحادية أن الحق هو الموجود وأن العالم ليس فيه باطل]
قال رحمه الله تعالى: [وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم كـ ابن عربي فرأوا أن الحق هو الموجود، فكل موجود حق، فقالوا: ما في العالم باطل؛ إذ ليس في العالم عدم].
أراد الشيخ رحمه الله أن يفرّق بين الحق بمعناه الكوني والحق بمعناه الشرعي، فالحق بمعناه الكوني يعني: أن كل موجود هو حق، لكن هذا معنى كوني قدري يتعلق بالربوبية لا علاقة له بالعبادة وتوحيد الإلهيات.
والنوع الثاني: هو الحق بالمعنى الشرعي، وهو ما شرعه الله، وهو اتباع أوامر الله والانتهاء عما نهى الله عنه، وهو الالتزام بشرع الله عز وجل بالمعنى الشرعي، فأهل الاتحاد التفتوا إلى المعنى الكوني ولم يلتفتوا إلى المعنى الشرعي؛ ولذلك ادعوا الربوبية لجميع الخلق، وأعرضوا عن شرع الله عز وجل.
إذاً: فالحق هنا كلمة مجملة، قد يراد بها الحق بمعنى الموجود، فكل الموجودات حق على هذا الاعتبار، لكن الحق الذي هو الله عز وجل حق كامل، والحق الذي للمخلوقات حق ناقص، يعتريه النقص والفناء والخلل، وكل العوارض التي تعرض للمخلوق.
والمعنى الآخر: الحق بمعنى الهدى والشرع الذي يريده الله، الذي تعبد الله به العباد، فهذا ضده الباطل وهو الشرك والعصيان ونحو ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [قالوا: والكفر إنما هو عدم وجود الشريك مثلاً، وإنما أتوا من جهة اللفظ المجمل.
فإن الشيء له مرتبتان: مرتبة باعتبار ذاته، فهو إما موجود فيكون حقاً، وإما معدوم فيكون باطلاً.
ومرتبة باعتبار وجوده في الأذهان واللسان والبنان، وهو العلم والقول والكتاب؛ فالاعتقاد والخبر والكتابة أمور تابعة للشيء، فإن كانت مطابقة موافقة كانت حقاً، وإلا كانت باطلاً، فإذا أخبرنا عن الحق الموجود أنه حق موجود، وعن الباطل المعدوم أنه باطل معدوم، كان الخبر والاعتقاد حقاً، وإن كان بالعكس كان باطلاً، وإن كان الخبر والاعتقاد أمراً موجوداً، فكونه حقاً أو باطلاً باعتبار حقيقته المخبر عنها لا باعتبار نفسه.
ولا يجوز إطلاق القول بأنه حق لمجرد كونه موجوداً إلا بقرينة تبين المراد.
وهكذا العمل والقصد والأمر إنما هو حق باعتبار حقيقته المقصودة، فإن حصلت وكانت نافعة كان حقاً، وإن لم تحصل، أو حصل ما لا منفعة فيه كان باطلاً.
وبهذين الاعتبارين يصير في الوجود ما هو من الباطل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، مع ما يوافق ذلك من عقل وذوق وكشف، خلاف زعم هذه الطائفة الضالة المضلة، قال الله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:١٧]].
هذه الآية اشتملت على المعنيين، على ذكر الحق الباقي وهو السيل، والباطل الزائل وهو الزبد الرابي الذي يطفح فوق السيل، وهو عبارة عن نفاخات الماء، مجرد ما يلامسها أدنى شيء تنفقع؛ لأنها ما هي إلا هواء، والزبد هو هواء ينتفخ لفترة قصيرة ثم يزول، ولا يبقى أكثر من دقائق معدودة على أكثر تقدير، ولا يعرف أن الزبد يبقى مدة طويلة، فهذا مثال للحق وهو السيل، والباطل وهو الزبد الرابي الذي يخالط السيل، وبينهما فرق يدركه كل عاقل، فالحق باق ونافع، وينتج عنه النافع، والباطل زائل وضار، وينتج عنه الضار.
قال رحمه الله تعالى: [شبّه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان والقرآن، فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد، وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار، فاحتمل الزبد فقذفه بعيداً عن القلب، وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه، وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع، فيستقر ويبقى في القلب.
وقد تقدم قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١] إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:٣].
فأخبر سبحانه أن سبب إضلال أعمال هؤلاء الذين كفروا حتى لم تنفعهم، وأن أعمال هؤلاء الذين آمنوا نفعتهم، فكفرت سيئاتهم، وأصلح الله بالهم، أن هؤلاء اتبعوا الباطل قولاً وعملاً، اعتقاداً واقتصاداً، خبراً وأمراً، وهؤلاء اتبعوا الحق من ربهم ولم يتبعوا ما هو من غير ربهم، وإن كان حقاً من وجه.
وهذا تحقيق ما قلناه؛ فإن الخبر والعمل تابع للمخبر عنه، وللمقصود بالعمل، فإذا كان ذلك باطلاً لا حقيقة له كان التابع كذلك وإن كان موجوداً، وكذلك ما تقدم من قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} [البقرة