[معنى قول القائل: ما ثم إلا الله]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وهو آخر درس في المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعده كما أسلفت -إن شاء الله- سنبدأ في المجلد الثالث، ويتضمن الواسطية والتدمرية، ويبدو لي من خلال ما جاءني في الدرس الماضي من الاقتراحات المكتوبة والشفوية، أن هناك رغبة في أن نقرأ هذين الكتابين، فعلى هذا نستمر على نفس المنوال، بأن نأخذ المجلد الثالث -إن شاء الله- بجميع محتوياته؛ لأنه ليس فيه أشياء من الحشو أو التكرار، أو الأمور التي لا لزوم لها، كما في هذا المجلد الذي فيه استطرادات في الرد على الفلاسفة والباطنية وأهل الاتحاد ووحدة الوجود ومن سلك سبيلهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سئل شيخ الإسلام وحجة الأنام أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه عمن يقول: إن ما ثم إلا الله، فقال شخص: كل من قال هذا الكلام فقد كفر؟ فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله، قول القائل: ما ثم إلا الله: لفظ مجمل يحتمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً، فإن أراد ما ثم خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا يجيب المضطرين ويرزق العباد إلا الله، فهو الذي يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل، وهو الذي يستحق أن يستعان به ويتوكل عليه ويستعاذ به ويلتجئ العباد إليه؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥].
وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣].
وقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:٣٠].
فهذه المعاني كلها صحيحة، وهي من صريح التوحيد، وبها جاء القرآن.
فالعباد لا ينبغي لهم أن يخافوا إلا الله، كما قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:٤٤].
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤] إلى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:١٧٥].
وكذلك لا ينبغي أن يرجى إلا الله، قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:٢].
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:٣٨].
ولا ينبغي لهم أن يتوكلوا إلا على الله، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:١٢].
ولا ينبغي لهم أن يعبدوا إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:٥].
ولا يدعوا إلا الله، كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:١٨].
وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:٢١٣] سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة.
وأما إن أراد القائل: (ما ثم إلا الله) ما يقوله أهل الاتحاد؛ من أنه ما ثم موجود إلا الله، ويقولون: ليس إلا الله، أي: ليس موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود المخلوقات هو وجود الخالق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد ونحو ذلك من معاني الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يثبتون المباينة بين الرب والعبد ونحو ذلك من المعاني التي توجد في كلام ابن عربي الطائي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني ونحوهم من الاتحادية.
وكذلك من يقول بالحلول كما يقوله الجهمية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات، حتى إن هؤلاء يجعلونه في الكلاب والخنازير والنجاسات، أو يجعلون وجود ذلك وج