للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان عذر من يغيب عقله ويقع في نوع من الحلول والاتحاد]

قال رحمه الله تعالى: [فصل.

وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل، لكن لما ورد عليه ما غيب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه، كان معذوراً غير معاقب عليه ما دام غير عاقل، فإن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وإن كان مخطئاً في ذلك كان داخلاً في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦] {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:٥]].

هذا الكلام الذي قاله شيخ الإسلام هنا يرد كثيراً في كتبه، خاصة في الأجزاء التي تكلم فيها عن السلوك والتصوف، وكذلك في كتبه التي تكلم فيها عن المسالك الصوفية، مثل: (الاستقامة) و (الرد على البكري) وغيرها.

في هذه الكتب نجد أن الشيخ في حكمه على شطحات الصوفية الأوائل يقول مثل هذا الكلام، وهو موقف عجيب من شيخ الإسلام رحمه الله، خاصة إذا طبقناه على الأمثلة التي ذكرها الشيخ، هنا يشير إلى ما ورد من أوائل الحلولية والاتحادية في القرن الأول والثاني والثالث الهجري، وأكثر ما كان ذلك في القرن الثاني والثالث.

كانت مجرد شطحات بسيطة في القرن الأول، لكن في القرن الثاني والثالث قبل ظهور الطرق الصوفية ظهرت من أوائل العباد عبارات إلحادية صريحة في الإلحاد، وهؤلاء كثير، منهم: (رابعة العدوية، وذو النون المصري، وابن أبي الحواري، والتستري، والبسطامي، والنوري، والشبلي، حتى توج هذا الاتجاه الخبيث الحلاج في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، توجه بالتصريح بالإلحاد، كان يصرح بالإلحاد حتى عندما ناقشه العلماء، وعندما استتيب ولم يتب، أما قبله فكانت أحوالاً وقع فيها بعض هؤلاء وأمثالهم، فيصرحون بالإلحاد أحياناً، في لحظات يظهر الواحد منهم أنه غير سوي، مثلاً: يكون مغشياً عليه، أو صعق لمفاجأة أتته، أو يكون في حال من الضعف الجسماني بعد السهر والجوع والعطش، فتحصل لهم حالات تشبه ما يسمى في عصرنا بالهستيريا، أثناء هذه الحالات التي تعتريهم يتلفظ كثير منهم فيها بالإلحاد، واحد يقول عن نفسه: سبحاني، وواحد يقول مثلاً للديك والكلب: لبيك لبيك، نسأل الله السلامة، وثالث يقول: ما في الجبة إلا الله.

هذا قبل الحلاج، ورابع يحلق لحيته، ويترك صلاة الجماعة، وتحصل منه تصرفات حتى يدخل مستشفى المجانين، وآخر يقول: لماذا تخافون من النار؟ ما هي إلا أن أنصب عليها خيمتي فتنطفئ.

وغيره يضرب صدره مقابل اليهود ويقول: هؤلاء في ذمتي.

هذه كلمات إلحادية ليست مجرد عبارات مخبولين ولا عبارات مجانين، بل هذه مذاهب.

فـ شيخ الإسلام يقصد ما قبل الطرقية، أما الطرقية فللشيخ كلام آخر.

يقول عن هؤلاء: إن هؤلاء تعتريهم حالات من السهر والجوع والعطش، وبسبب جهلهم وضعفهم تعتريهم حالات يتكلمون بهذه الكلمات، ثم يقول: فلعلهم يعذرون في مثل هذا الكلام؛ لأنهم ليسوا عقلاء.

وهذا عجيب من شيخ الإسلام.

ولذلك ينبغي أن يتوقف طالب العلم في هذه المسألة؛ لأنه إن فرضنا أنهم تكلموا بغير إرادتهم أو من غير شعور كما نقول، لكن هل يعقل أن تأتي هذه الإلحاديات المقننة التي هي امتداد لمذاهب قديمة إلا في حال الجنون أو الخبال أو السكر أو نحو ذلك؟ يحتمل أن يكون أراد أن يتستر بهذه الحالات من أجل ألا يؤاخذ ولا يقتل أو يرجم من العوام؛ لأن مثل هذه الكلمات لا يتركها الناس، فبمجرد ما يسمعها العوام من هؤلاء يرجمونهم بالحجارة أو يطردونهم من القرى التي هم فيها، لكن مع ذلك هؤلاء لم يتخذ إزاءهم أي إجراء، حتى إن بعض العلماء احتسب على هؤلاء، وكانوا مجموعة منهم: التستري، والبسطامي، والنوري، والشبلي، فقام العلماء المحتسبون ورفعوا بهؤلاء إلى الحاكم فأتوا بهم إلى أحد القضاة، فلما اجتمعوا وسألهم وجد أن عندهم المذاهب الخبيثة التي اتهموا بها، فحكم بقتلهم، فلما جهزت وسائل القتل انبرى أحدهم -وأظنه النوري - فقدم نفسه قبلهم، فرق القاضي لهم وعفا عنهم، وقال كلاماً يدل على أنهم لبس عليهم الأمر.

لكن مثل هذه الكلمات لو كانت غير منتظمة وغير مقننة، ولا تحمل صور المذاهب القديمة المعروفة في الأمم لقلنا: إنها عفوية أو نتيجة جنون، لكنها كلمات إلحادية أصبحت مذاهب فيما بعد، فأقول: ربما أنهم يلجئون إلى الادعاء بأنهم ليسوا أسوياء؛ من أجل أن يسلموا من القتل والمطاردة، ثم إن عندهم تعارضاً حاداً، فهؤلاء الذين أثر عنهم مثل هذه الكلمات الإلحادية أثر عنهم التصريح بوجوب الأخذ بالعقيدة السليمة والتوحيد والسنة، وأن كل أعمالهم يجب أن تعرض على الكتاب والسنة، وما خالفهما يرد.

وهذا

<<  <  ج: ص:  >  >>