[الفرق بين الاتحاد النوعي والاتحاد العيني وحكم كل منهما]
قال رحمه الله تعالى: [فأما إذا كان السبب محظوراً لم يكن السكران معذوراً، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات.
وفي مثل هذا الحال، غلط من غلط بدعوى الاتحاد والحلول العيني، في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في علي وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي].
قوله: (وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي) الاتحاد النوعي الحكمي هو القرب المعنوي بين العبد وربه، ويسمى هذا اتحاداً نوعياً، فقرب العبد الصالح المسلم كالأنبياء والصالحين وأتباعهم هؤلاء لهم قرب مع ربهم، يتمثل بالمحبة والولاية، محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده الصالح، وكذلك ولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين لله، هذا هو الاتحاد النوعي الحكمي، ليس مادياً كما يزعم أهل الاتحاد الذين خلطوا هذا النوع بالنوع الثاني: وهو الاتحاد العيني الذاتي، الذين زعموا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والأمر، مع أن الفرق بين الأمرين واضح جداً، فالاتحاد الحكمي هو عين التوحيد، وهو أن يكون الإنسان ولياً لله عز وجل، هذا هو عين التوحيد المطلوب، بينما الاتحاد العيني كفر وضلال؛ لأنه يؤدي إلى دعوى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وعدم الفرق بين العبد وربه وبين الخالق والمخلوق، وهذا هو قمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله تعالى: [فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان فلو عدته لوجدتني عنده؟ عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي).
ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه؛ لقوله: (لوجدت ذلك عندي)، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: (لوجدتني عنده) ولم يقل: لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهى عنه.
وهؤلاء هم الذين يرضى الحق لرضاهم ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:١٠].
وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:٦٢].
وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:٨٠].
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة، إن صح أن المسيح عليه السلام قالها فهذا معناها، كقوله: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي ونحو ذلك، وبها ضلت النصارى؛ حيث اتبعوا المتشابه، كما ذكر الله عنهم في القرآن لما قدم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في المسيح].
قول عيسى عليه السلام: أنا وأبي واحد هذا قد سبق التعليق عليه؛ لكن نظراً لأنه في هذا المقام أوضح في تفسير المقصود أحب أن أعيد ما سبق أن قلته: وهو أن مسألة تعبير النصارى عن الرب بالأب هذا راجع إلى عدة عوامل: العامل الأول: أن الذين أفسدوا دين النصارى اليونان، والأمم التي دخلت دين النصارى فيما بعد، فهؤلاء لما شرعوا في تحريف دين النصارى دخلوا من خلال هذه المعاني ذات الألفاظ المشتبهة، ففسروا كلمة الرب بالأب؛ من أجل أن تبقى عندهم نزعة التثليث، ولذلك الله عز وجل لما ذكر هذه العقيدة عن النصارى، قال: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:٣٠]، من هم الذين كفروا من قبل؟ هم اليونان والرومان الذين عندهم مسألة تعدد الآلهة ضمن ديانتهم الوثنية التثنية والتثليث وغيرها، فالنصارى ضاهئوهم بمعنى قلدوهم في مسألة تنزيل العبارات الشرعية على معان بدعية.
فإذاً: الذين حرفوا الديانة النصرانية أخذوا المعاني المشتبهة وقلبوها إلى المعنى الباطل.
العامل الثاني: أنه مع كثرة الترجمات تعرض الإنجيل إلى ترجمة سريعة؛ لأنه لما رفع عيسى عليه السلام إليه ضيق اليهود والسلاطين على أتباع عيسى حتى لم يستطيعوا أن ينشروا الدين بشكل بين واضح، فانتشروا في بقاع الأرض، فلما انتشروا انتشروا إلى أقوام يحتاجون إلى ترجمات للكتاب وهو الإنجيل، فترجم ترجمات سريعة، وهذه الترجمات كلها حولت إلى معان تتفق مع عقائد الأمم، فهذه الترجمة السريعة كانت السبب في وجود التحريف، فالذين نظروا إلى المعاني اللغوية وجدوا كلمة (الرب) بمعنى المربي، والمربي هو الأب، ففسروا الرب بالأب، وحملوا هذا التفسير على ما عندهم من عقائد، وهذا من م