[مقامات العبد في التوحيد]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية، أو توحيد أحدهما، للعبد فيه ثلاث مقامات: أحدها: مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات].
من خلال هذه العبارات ساير الشيخ رحمه الله المتصوفة؛ من أجل أن يجذب هؤلاء إلى المفاهيم الشرعية بمصطلحاتهم هم، وإن كان هو في منهجه الخاص وفي تقريره لنهج أهل السنة والجماعة لا يسلك هذا المسلك، يعني: لا يقرر العقيدة على هذا النحو حينما يعبر عن منهج أهل السنة والجماعة، منهج أهل الحديث، منهج السلف الصالح؛ لكن نظراً لأنه الآن يخاطب واحداً من كبار القوم، ويريد أن يجره إلى الحق جراً رفيقاً من خلال استعمال مصطلحات القوم، وتحويلها قدر الإمكان إلى معان شرعية، تبعدهم عن المعاني البدعية الضالة، التي أوقعتهم في وحدة الوجود والاتحاد والحلول.
فقوله: (مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات) يعني: التفريق بين الخلق المتمثل بتوحيد الربوبية وبالقدر، وبين الأمر المتمثل بتوحيد الإلهية والشرع، فمقام الفرق هذا مقام صحيح إذا استعمل على وجه صحيح، بل هو المقام الذي ينبغي أن يكون، بمعنى أن على المسلم أن يعبد ربه وهو يفرق بين الأمور القدرية المتمثلة بتوحيد الربوبية -والتي هي أمور فطرية الإنسان محكوم بها شاء أم أبى- وبين مقام الأمر المتمثل بأوامر الله ونواهيه.
فالمسلم عندما يفرق بين هذين الأمرين، فإنه يكون على المنهج الصحيح السليم، ويجب على المسلم أن يعبد الله على هذا الأساس.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه؛ فهذا فناء عن إدراك السوى، وهو فناء القاصرين].
هذا النوع مذموم، والشيخ إنما أراد أن ينقدهم من خلال مصطلحاتهم؛ لأن مقام الجمع والفناء يرجع إلى نزعة فلسفية عند عبَّاد الأمم الضالة، يزعمون أن الإنسان بالعبادة والتحنث يلغي الماديات، ولم يعد يشعر إلا بالوجود الواحد، بحيث يغيب العابد عندهم عن شعوره بانفراد الخالق عز وجل، وهذا خطأ فادح قد يؤدي إلى الشرك والحلول والاتحاد.
أو كذلك يغيب بمشهوده وهو عبادة الرب عز وجل وتوجهه إلى الله، عن شهوده وهو هذا الخلق الذي بين يديه، فكأنه من إمعانه في العبادة لم يشعر بوجود الخلق من حوله، ويزعمون أنه بذلك يتحد العابد عندهم بربه، فلم يعد يفرق بين الخالق والمخلوق، وبمعبوده وهو الله عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وهذه كلها معان فلسفية صوفية تحمل غالباً معاني باطلة.
وقد يستعملها بعض العباد الجهلة وبعض شيوخ الصوفية الذين ليس عندهم ضلال خالص في وحدة الوجود والاتحاد، لكن عندهم نزعة، قد يستعملونها على وجه صحيح فيه تكلف، بمعنى أن العابد من قوة ولايته لله عز وجل قد لا يشعر بما حوله، فيستغني بمعبوده عن الخلق، أو بمشهوده وهو الله عز وجل عن شهود من حوله وهكذا.
وقوله: (وهو فناء القاصرين) يعني: أن الذين يسلكون هذا المسلك فيهم جهل، وقد يؤدي بهم هذا الجهل إلى القول بالحلول والاتحاد والفناء، وهذا حصل من كثير منهم، فتستهوي هذا الصنف هذه العبادة على الجهل، ويستشعر الفناء بالقدر وبالربوبية، فيضعف عنده الميل إلى العمل بالشرع، وربما ينعدم كما هو عند غلاتهم الذين أعلنوا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
قال رحمه الله تعالى: [وأما الفناء الكامل المحمدي: فهو الفناء عن عبادة السوى، والاستعانة بالسوى، وإرادة وجه السوى].
هذه العبارات استعملها الشيخ في التعبير عن الحق استعمالاً فيه لبس وإشكال، لكن كما قلت: هو يخاطب أحد كبار الشيوخ الذين ابتلوا بهذه المصطلحات، فهو يخاطبه ليجره إلى الحق.
ويقصد بالفناء الكامل المحمدي: عبادة الله عز وجل، فقوله: (فهو الفناء عن عبادة السوى) يعني: ألا يعبد إلا الله، لكن استعمال كلمة الفناء عن عبادة السوى فيها لبس، والشيخ لم يستعملها في تقرير الحق على منهج أهل الحق، إنما استعملها لجرِّ القوم إلى المفاهيم الصحيحة، كما فعل ابن القيم في مدارج السالكين.
إذاً: المقصود أن الفناء الكامل هو ألا يعبد الإنسان إلا الله عز وجل، ولا يستعين إلا بالله، ولا يريد إلا وجه الله، هذا معنى قوله: (فهو الفناء عن عبادة السوى) وقوله: (والاستعانة بالسوى) وقوله: (وإرادة وجه السوى) ولذلك أرى أنه يجب على طالب العلم ألا يستعمل هذه العبارات في التعبير عن الحق، لكن قد يحتاج إليها عندما يريد أن يصحح للقوم مذاهبهم، ويجرهم إلى المفاهيم الشرعية بمصطلحاتهم هم، وعلى ما في ذلك من اللبس، فإنه إذا كان وسيلة تقرب هؤلاء القوم إلى الحق فهي وسيلة مؤقتة لا ينبغي أن يستقر عليها منهج طالب العلم والمسلم.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تف