[الرد على المتكلمين في تقرير الربوبية والنبوة وإغفال توحيد الألوهية]
قال رحمه الله تعالى: [والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح، فإن القلب هو الملك والأعضاء جنوده، وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، وإنما ذلك بعلمه وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة الله بمعرفته ومحبته، هو أصل الدعوة في القرآن، فقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، وقال في صدر البقرة بعد أن صنف الخلق ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر، ومنافق، فقال بعد ذلك:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:٢١]، وذكر آلاءه التي تتضمن نعمته وقدرته، ثم أتبع ذلك بتقريره النبوة، بقوله:{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}[البقرة:٢٣].
والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه حيث قررت الربوبية ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات.
أولاً: من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة والكرامية والكلابية والأشعرية، ومن سلك هذه الطريق في إثبات الصانع، أولاً: بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، على ما بينهم فيه من اتفاق واختلاف إما في المسائل وإما في الدلائل، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات من المعاد والثواب والعقاب والخلافة والتفضيل والإيمان بطريق مجمل].
نقف عند هذا؛ لأنه سيبدأ في موضوع جديد، ختم الشيخ هذا المقطع بالإشارة إلى منهج المتكلمين وخطر هذا المنهج وخطئه؛ لأن الشيخ قال حين ذكر قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:٢١] ذكر أن المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف؛ لأن الله عز وجل ذكر آلاءه ونعمه في قوله عز وجل:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}[البقرة:٢٢] إلى آخر الآيات التي يقرر فيها النعم، ثم يقرر فيها التحدي لهؤلاء العباد؛ لأنهم إن كانوا في ريب مما نزل على عبده فليأتوا بسورة من مثله أو نحو ذلك.
فهو يقول: إن المتكلمين يعجبهم هذا المنهج، لكنه خلاف ما قصدوا من أنه يبدأ بذكر الآلاء والنعم ثم ذكر النبوة، لكنهم نسوا أن الله عز وجل صدّر الآية بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة:٢١] بعد تقرير توحيد العبادة لفتهم إلى نعمه وآلائه، وإلى النبوة وتقريرها، وأشار إلى أنه يتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فهم ذُهلوا عن أصل القضية وهو الدعوة إلى عبادة الله، فقال:(المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف) أي: ذكر الخلق أولاً، ثم النعم، ثم الرسالة والنبوة، ثم يعرّج بعد ذلك على ما ذكره الشيخ من تقرير الربوبية وتقرير النبوة والسمعيات، ثم الكلام في الصفات إلى آخره، وأن هذا منهج معوّج من حيث الأصل، وكل قضية يبدأ أصلها خطأ تكون نتائجها خطأً، لذلك هم قد يوافقون الحق في بعض الأمور، لكن على أصل خاطئ، فتقريرهم للنبوة بحد ذاته صحيح، وينبغي أن يقرر مبدأ صحة النبوة وصدق الأنبياء، وتقريرهم لذكر نعم الله وخلقه للوصول إلى صحة وجود الخالق صحيح أيضاً، لكن النتيجة التي هي مطلوبة من العباد لم يصلوا إليها، ولذلك عندما ذكر الشيخ منهجهم هذا الإثبات بالقياس العقلي وما بينهم من اختلاف في مناهجهم الكلامية قال:(غاية ما يصلون إليه هو هذه الأمور) كأنه يقول: ومع ذلك فإنهم لا يعرّجون على توحيد العبادة الذي هو الغاية الكبرى وهو المطلوب ابتداء وانتهاء.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.