[الأقوال في كون وراء الزمان جوهر سيال قائم بنفسه هو الدهر]
قال رحمه الله تعالى:[وهل وراء ذلك جوهر قائم بنفسه سيال هو الدهر؟ هذا مما تنازع فيه الناس، فأثبته طائفة من المتفلسفة من أصحاب أفلاطون، كما أثبتوا الكليات المجردة في الخارج، التي تسمى: المثل الأفلاطونية، والمثل المطلقة؛ وأثبتوا الهيولى التي هي مادة مجردة عن الصور، وأثبتوا الخلاء جوهراً قائماً بنفسه].
الفلاسفة كلهم ليسوا في أمر الدين على شيء، كلهم في أمر مريج، وهم أول من ينطبق عليهم قول الله عز وجل:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:١٠ - ١١]؛ لأنهم في كلامهم على الغيب والإلهيات يجهلون الوحي الذي هو المصدر الوحيد للغيب، بل يعادون الوحي ويضادونه، وكل ما جاء به الأنبياء عاندوه، وأنا أقصد الفلاسفة الخلص الذين يتكلمون في الأمور الغامضة ومحارات العقول بمجرد آرائهم، أما من سلك سبيل الأنبياء في هذه الأمور فليس بفيلسوف مطلقاً، لا يصح أن يسمى فيلسوفاً، الإنسان الذي يستمد آراءه في الأمور الغامضة ومحارات العقول من الوحي ليس بفيلسوف.
لكن هناك جانب قد يتكلم فيه بعض الفلاسفة، وقد يكون حقاً، لكن ليس هو الذي به سموا: فلاسفة، أعني: بعض الفلاسفة قد يتكلم ويبدع في بعض العلوم الطبيعية، مثل: الطب، والكيمياء، والفيزياء وغيرها، فليبدع بحكم أنه بشر أعطاه الله عز وجل عقلاً معيشياً يعرف به ظاهراً من الحياة الدنيا، كما ذكر الله عز وجل عن الكفار، لكن ليس هذا هو الفلسفة، وأكثر ما يفتن الناس بالفلاسفة الذين يتخرصون على الله ويتخرصون على الدين أنهم لهم علوم دنيوية طبيعية مفيدة، لكن يجب أن نفرق بين هذا وذاك، فمثلاً: ابن سينا فيلسوف وطبيب، وقد أبدع في الطب؛ لأنه حينما استعمل ما أعطاه الله عز وجل من عقل وذكاء في الأمور الطبيعية أجاد وأفاد، وحينما صرف ما أعطاه الله عز وجل من عقل وذكاء في الأمور الغيبية خلط وخبط؛ لأنه أداه عقله وذكاؤه إلى الغرور، وجانب منهج الأنبياء، ولا شك أن من جانب منهج الأنبياء فلا يستحق أن يكون إماماً في الفكر والفلسفة، فضلاً أن يكون إماماً في الدين، كما يتعلق بذلك بعض المفتونين بالفلاسفة، وما أثر عن أفلاطون وغيره كلهم من هذا الباب، إلا ما تعلق بعلوم دنيوية أو بعض الأمور المنطقية وهي أشبه بالعلوم الرياضية، المنطق الذي يستقرأ من علم صحيح هو من العلم، سواء صدر من الفلاسفة أو من غير الفلاسفة، هو من العلم الطبيعي الذي لا مشاحة فيه.
إذاً: ما يصدر عن الفلاسفة أحياناً من بعض العلوم الصحيحة في الأمور البدهية العلمية الطبيعية، سواء في العلوم التجريبية أو في المنطق الصحيح هذا أمر صواب، ويؤخذ من الفلاسفة وغير الفلاسفة، لكن ليس هذا هو الذي سموا به فلاسفة، إنما سموا فلاسفة؛ لمناهجهم الباطلة، فكلامهم في الكليات المجردة في الخارج والمثل والهيولي والخلاء وأنه جوهر مجرد هذا كله من التخرص، لا رصيد له من العلم ولا من الواقع ولا من العقل السليم، وكله خلط وخبط وتيه وبعد عن الحق.
قال رحمه الله تعالى:[وأما جماهير العقلاء من الفلاسفة وغيرهم فيعلمون أن هذا كله لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي أمور يقدرها الذهن ويفرضها، فيظن الغالطون أن هذا الثابت في الأذهان هو بعينه ثابت في الخارج عن الأذهان، كما ظنوا مثل ذلك في الوجود المطلق، مع علمهم أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الذهن، وليس في الخارج إلا شيء معين وهي الأعيان، وما يقوم بها من الصفات، فلا مكان إلا الجسم أو ما يقوم به، ولا زمان إلا مقدار الحركة، ولا مادة مجردة عن الصور، بل ولا مادة مقترنة بها غير الجسم الذي يقوم به الأعراض، ولا صورة إلا ما هو عرض قائم بالجسم، أو ما هو جسم يقوم به العرض، وهذا وأمثاله مبسوط في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود التنبيه على ما يتعلق بذلك على وجه الاختصار، والله أعلم].
مجمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الصفات لا يمكن أن توجد إلا بالموصوفات، وإلا تبقى مجرد كلام في الأذهان، وهذا صحيح، يعني: الصفات التي هي الأعراض لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا وجدت الموصوفات، وإلا يبقى الكلام مجرد كلام في الذهن، وأكثر الفلاسفة يتعلقون بهذه التصورات الخيالية، وإن كان بعض عقلائهم -كما قال الشيخ- يعارضون هذا؛ لأن بعض الفلاسفة أعقل من بعض، وليس كل عاقل يدرك بعقله الأمور التي يتفق عليها عموم العقلاء، أو من آتاهم الله عقولاً سليمة.