[تفاوت الألوهية واليقين والإيمان في القلوب]
قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث مأثور: (ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين)، ويقال: القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال: إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه؟ فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه].
هذا مثال جيد على مسألة حلول المعاني الشرعية في قلب المؤمن، فإن المؤمن يحل في قلبه حب الله عز وجل، ويحل في قلبه خشية الله ورجاؤه، والتوكل عليه والإنابة إليه سبحانه، وهذه كلها معان متعبد بها لله عز وجل، وهي تحل في قلب المؤمن حلولاً معنوياً وحلولاً إيمانياً، ولا يعني ذلك أن الله عز وجل بذاته يحل كما يزعمون؛ لأن أصحاب الحلول الباطل استدلوا بمثل هذه النصوص المجملة، وما عرفوا أن هذا تمثيل جزئي وليس معنى كلياً، مثل الله عز وجل امتلاء قلوب عباده الصالحين بالإيمان به والتصديق والرجاء والخوف بنوع من المثل، وأطلق عليها هذا الإطلاق لا من باب أنه حلول ذاتي أو حلول كلي، لكنه حلول شيء من المعاني المتعلقة بعلاقة العبد بربه.
قال رحمه الله تعالى: [وروي مرفوعاً من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، رواه أبو يعلى الموصلي وابن أبي الدنيا في كتاب (الذكر)؛ ولهذا قال أبناء يعقوب عليهم السلام: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:١٣٣]، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتاً لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق شخصين: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)].
يعني: هذا يدل على تفاوت المعاني في القلب، وفي الأعمال، وكذلك المعاني الشرعية، فإنها تتفاوت تفاوتاً عظيماً إلى حد أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً في رجلين كليهما من المسلمين ومن أهل الخير، لكن قال: (هذا خير) فهو صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً بين إنسانين، هذا يساوي ملء الأرض من مثل هذا، عدد لا يكاد يحصى، فهذا تفاوت بين إنسان وآخر، وهو يدل على أن حلول الأعمال والأحوال القلبية في قلوب العباد تتفاوت.
قال رحمه الله تعالى: [فصار واحد من الآدميين خيراً من ملء الأرض من بني جنسه؛ وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان.
وإلى هذا المعنى أشار من قال: ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، وهو اليقين والإيمان.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان).
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الصديق رضي الله عنه: (أيها الناس! سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيراً من العافية) رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه.
وقال رقبة بن مصقلة للشعبي: رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد رحمه الله أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أين أجدك؟ قال: يا موسى عند المنكسرة قلوبهم من أجلي؛ أقترب إليها كل يوم شبراً؛ ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم.
وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله].
هذه العبارات مثال لما ذكره شيخ الإسلام من أن الصالحين وبعض العباد قد يطلقون العبارات الموهمة، وهم يريدون معنى صحيحاً، ولا أظنه يقر بمثل هذه المعاني، لكنه يرى أنها ما دامت أطلقت من أناس قصدوا بها مقاصد حسنة، فإنها تفسر بالتفسير الذي قصدوه، لا أنها أخرى، فكلمة: (ما في قلبي إلا الله) أثرت عن بعض العباد والنساك، لكن ما يقصد الحلول، يقصد أنه لم يعد له هم إلا ما يرضي الله عز وجل، ولم يعد له تفكير إلا فيما يرضي الله عز وجل، فقلبه امتلأ بالصدق واليقين والرجاء والخوف، وامتلأ بالإقبال على الله عز وجل، فهذا التعبير الموهم لا يقصد به الحلول البدعي إنما يقصد كمال اليقين والتوكل.
وكذلك كلمة (ما عندي إلا الله) يعني: لا أشعر بحاجة إلى العباد من حولي من قوة اليقين، فهذه معان صحيحة، لكن التعبير موهم، وأظنها والله أعلم عندما أطلقت في القرن الأول من بعض العباد لم تكن تشكل عند الناس؛ لأنهم يعلمون أن مقاصد أولئك الأوائل كانت حسنة، وإن لم يوافقوه على ذلك، لكن بعدما بدأت هذه العبارات تستعمل على معنى بدعي في آخر القرن الثالث في عهد الحلاج ومن جاء بعده، فإنهم بعد ذلك صاروا يتحسسون من هذه العبار