للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بعض ما يؤثر عن أبي يزيد البسطامي وغيره من الكلمات حال الفناء وبيان من يعذر في ذلك]

قال رحمه الله تعالى: [فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى؛ إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه].

هذا المسلك عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الحقيقة من المسالك المحيرة، وقد تكررت لـ شيخ الإسلام في مواضع كثيرة في هذا الكتاب وفي غيره، وهي مسألة الاعتذار لأناس وقعوا في الخلط في العقيدة، وحصلت منهم دواه تدل على نزعة إلحاد، سواء كان عن قصد أو عن غير قصد، بل تدل على أن القوم ورثوا مذاهب باطلة عن الأمم السالفة الفلسفية، والأمم والديانات الوضعية وغيرها؛ لأن مثل هذه الأمور في الحقيقة خطيرة جداً، مثل: أبي يزيد البسطامي، أو التستري، أو ابن أبي الحواري أو نحوهم ممن أثرت عنهم عبارات هي إلحادية لا تقبل النقاش في ظاهرها، فأن يخاطب الإنسان نفسه أمام الناس علناً ويجهر ويقول: سبحاني، هذا الأمر يقشعر منه جلد المؤمن من هوله ومن خطره، وكذلك كلمة (ما في الجبة إلا الله) هذه كلمة إلحادية خطيرة جداً لا ينبغي الاعتذار لأهلها، لكن مع إنكار شيخ الإسلام لهذه العبارات، فهو يرى أنها عبارات كفرية إلحادية، ومع ذلك يلتمس للقوم أعذاراً، وهذا أمر محير، وإن كان الشيخ فسره بقوله: إن هؤلاء من شدة عبادتهم وسلوكهم مسالك غير شرعية في التعبد مثل: الجوع والعطش والسهر حصل عندهم مثل هذا الخلط، الذي ربما يكون من كلام الشيطان على ألسنتهم، أو من إيحاءات عقائد موروثة في باطنهم، الله أعلم بأحوالهم، والغالب أنها عقائد موروثة يتلقونها سراً، وعندما يختلط الإنسان ويهستر يتلفظ بها وهو لا يشعر، وإلا فمن أين هذا الكلام المنظم؟ هذا ليس إلحاداً ساذجاً، هذا إلحاد منظم، إلحاد الفلاسفة، إلحاد الباطنية، إلحاد الديانات الضالة، ليس مجرد كلمة عابرة، لا سيما أنهم أثرت عنهم أشياء كثيرة من هذا النوع، مثل: لا أعبدك خوفاً من نارك، ولا رجاء جنتك.

ومثل: لماذا تخافون من النار، ما هو إلا أن أنصب خيمتي فوقها فتنطفئ.

ومثل: أن يمر أحدهم بمقابر اليهود ويضرب صدره ويقول: هؤلاء في ذمتي، فيضمن لهم الجنة.

هذا ما هو مجرد خلط، بل هذا هو الإلحاد بعينه، والجرأة على الله عز وجل، والمصادمة للدين مصادمة عنيفة، لكن كأن الشيخ يظن أن هؤلاء يعتريهم خلل في المخ وخلل في العقول؛ بسبب سلوكهم مسلك التعبد القاسي، بترك الطعام والشراب وكثرة السهر، حتى إن الواحد منهم يهذي بما لا يدري، هذا سبب اعتذار شيخ الإسلام لهم.

ولذلك قال: (وكلمات السكران) السكر هنا يقصد به الهذيان الذي يكون من هذا الإنسان، كما يحصل من الذي يسكر بالخمر، والشيخ يميل إلى أن الإنسان كما يسكر بالخمر يسكر أيضاً بالمبالغة في التعبد والتحنث، وهذا فعلاً يحصل الآن عند عباد الصوفية، وقد لاحظنا منهم من يحصل له ذلك، وذكرت لكم في الدرس الماضي أن كثيراً من عباد الصوفية يحصل عندهم نشوة عندما يتعبدون بالأوراد البدعية، حتى إن الواحد منهم يبدأ يتصرف بتصرفات غير معقولة، لكن ما دام أن هذا الأمر غير مشروع ونتيجته غير مشروعة، فإن الاعتذار لهؤلاء القوم في الحقيقة فيه نظر، على الأقل ينبغي أن يحكم على هذه الكلمات بالحكم الظاهر منها، وأنها كلمات كفرية إلحادية خطيرة، ولا داعي للتكلف في الاعتذار عنهم، ومع ذلك فإن شيخ الإسلام له وجهة نظر، يقول: إن هؤلاء لهم أحوال في العبادة، إذا كانوا في حال الصحو لهم أحوال في العبادة عظيمة جداً تذكر وتشكر، وهذا لعله يكون مبرراً لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأننا لو تتبعنا بالمقابل الكلمات التي صدرت عن البسطامي وابن أبي الحواري والتستري وغيرهم، الكلمات التي قالوها في تقرير التوحيد وفي الدفاع عن الحق وفي كشف مناهج الباطل فإنها كلمات مليئة بالحكمة وهي درر في تقرير التوحيد.

والشيخ رحمه الله يعتذر عن أوائل الصوفية الذين حصلت منهم هذه الشطحات قبل أن تكون هناك مناهج في الدين، أما من بعدهم فالشيخ يقول عنهم: هؤلاء نهجوا مسالك الضلالة في الدين، ووضعوا مناهج باطلة ضاهوا بها السنة، وأخرجوا بها الناس عن الحق.

هذا بالنسبة لمن جاءوا فيما بعد.

إذاً: فالشيخ يعتذر عن الأوائل مع أنه لا يقرهم على هذه العبارات الكفرية، لكن هذه الكفريات مقننة، ولها صياغة لا تعرف إلا من خلال أهل الإلحاد والكفر الذين عرفوا بذلك.

وهذه مسألة أخرى تفيدنا أن هذه المناهج مناهج موروثة، فإذا نظرنا إلى الكلمات التي تفوه بها هؤلاء وجدنا أنها ترجع إلى الديانات التي كانت في بيئاتهم.

فهذيان هؤلاء القوم الذين كانوا في الشرق الإسلامي كان تعبيراً عن مذاهب الديانات البدعية في الهند وما حولها، والذين كانوا في الشام أو في مصر أو غيرها، كان أكثر كلامهم

<<  <  ج: ص:  >  >>