الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا كالمعتاد، وسنبدأ الآن في قراءة من مجموع الفتاوى، في المجلد الثاني من صفحة (٤٥٢)؛ لأن ما بعد الدرس السابق موضوعات من المسائل التي فيها متاهات كلامية ومحارات لا حاجة لنا بها، والشيخ رحمه الله إنما كتبها للرد على أولئك الأقوام أو المتأثرين بهم، ولسنا بحاجة إليها؛ لذلك ننتقل الآن إلى صفحة (٤٥٢).
قال شيخ الإسلام قدَّس الله روحه:[بسم الله الرحمن الرحيم.
من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونَهَج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته؛ حتى يُظِهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته.
أما بعد: فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً منزلة علية، ومودة إلهية؛ لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة].
في هذه المقدمة نستطيع أن نستجلي منهج الشيخ في التعامل مع الآخرين، وهو منهج شرعي أصيل، سلكه كثير من الأئمة والعلماء الذين يكاتبون غيرهم من العلماء، سواء كانوا من الموافقين أو من المخالفين، ما لم يكونوا من أصحاب البدع المغلظة الكبرى، أي: من المنحرفين الضالين.
والشيخ إذا كتب للعلماء الذي لهم قدرهم واعتبارهم، وإن كانوا ممن لهم زلات أو بدع أو مآخذ، يكتب لهم بأسلوب المُقَدِّر لهم، والمنوه عن فضائلهم، المؤدب مع العلماء، فهو يثني عليهم بما فيهم من الخير، ويتغاضى عما هم عليه من الأخطاء والزلات؛ لأنه لا يقصد في مثل هذه الرسالة التشهير، أو معالجة الأخطاء بالأسلوب الذي يسلكه كثير من الناس، والشيخ حتى مع الكفار من ملوك ورؤساء ووزراء وغيرهم يكتب لهم كتابة يكون فيها إشارة إلى قدرهم، أياً كانوا، إن كانوا علماء فيذكر فضلهم وعلمهم إلى آخره، وإن كانوا وزراء فيذكر محاسنهم، وإن كانوا ملوكاً يتلطف معهم في الخطاب لدعوتهم ونصحهم، فهو رحمه الله يؤثر خطاب النصيحة في الخطابات الخاصة، ولا أعرف من كتابات الشيخ رحمه الله للآخرين -وإن كان من المخالفين- إلا أنه يسلك هذا الأسلوب، أسلوب الملاينة والمناصحة، والاعتراف بما عند المخالف من الفضل والعلم والقدر، وإثارة هذا الأمر والجانب فيه؛ لجره إلى الخير، وتهيئة نفسه لقبول النصيحة.