للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خمسة أوجه في الاحتجاج بقوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) على الاتحادية]

قال رحمه الله تعالى: [وقالوا: قوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، والباطل هو المعدوم، فكل ما سوى الله معدوم، والموجود ليس بمعدوم.

فالموجود ليس فيه سوى، وإنما السوى هو العدم.

فإن هذا مبني على المقدمتين الباطلتين: إحداهما: قولهم: إن الباطل هو المعدوم، فإنه ليس كذلك، بل المعدوم باطل وليس كل موجود باطلاً، بل في الموجود ما هو حق وفيه ما هو باطل كما تقدم، وهو الأعمال التي لا تنفع، والأخبار التي ليست بصدق، وما يندرج في هذين من المقاصد والعقائد.

الثانية: لو كان لا باطل إلا المعدوم؛ لكان الموجود حقاً، وكل موجود فقد يسمى حقاً مع القرينة المفسرة باعتبار وجوده، وإن كان باطلاً؛ لانتفاء حقيقته التي بها جاز إطلاق الحق عليه، لكن الحق حقان: حق خالق، وحق مخلوق.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس - يقول إذا قام من الليل: (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت).

وإذا ظهر أن في الوجود ما هو باطل في الحقيقة، ومنه ما هو حق من مخلوقات الله ليس هو الله؛ ظهر تمويههم بقولهم: إن الباطل هو السوى وهو العدم، وأما الموجود فهو هو.

وأيضاً فنفس الحديث حجة عليهم؛ فإن قوله: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) لفظ عام يدخل فيه كل موجود سوى الله، فإن لفظ (الشيء) يعم كل الموجود بالاتفاق، ويدخل فيه ما له وجود ذهني أو لفظي أو رسمي كتابي، وإن لم يكن له وجود حقيقي من المعدومات والممتنعات، فهذا نص في أن كثيراً من الموجودات باطل، ولا يجوز أن يراد به: كل معدوم ما خلا الله فهو باطل؛ لخمسة أوجه: أحدها: أنه قد استثنى الله تعالى وهو الحق المبين من لفظ إثبات، ومثل هذا الاستثناء يدل على التناول، بخلاف الاستثناء من غير موجب، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:١٥٧]، فإن ذلك لا يدل على التناول، فلو كان التقدير: كل معدوم ما خلا الله باطل؛ للزم أن يكون الحق تعالى معدوماً، وهذا أبطل الباطل.

الثاني: أن (كل شيء) نص في الوجود، لا يجوز قصرها على المعدومات بالاتفاق.

الثالث: أن المعدوم لا يدخل في لفظ (كل شيء) عند أهل السنة وعامة العقلاء، فضلاً عن كونه يختص به.

الرابع: أنه لو كان المعنى: كل معدوم فهو باطل؛ لكان هذا من باب تحصيل الحاصل، بل لفظ (العدم) أدل على النفي من لفظ الباطل؛ فكيف يبين الجلي بالخفي؟ الخامس: أنه لو أراد هذا لقال: (كل ما سوى الله باطل)، فإن هذه العبارة أقرب إلى احتمال مراد هؤلاء الملاحدة من هذا اللفظ، وإن كانت تلك العبارة لا تدل أيضاً على مرادهم.

وإذا لم يكن معنى الحديث ما ادعوه؛ فقد عرف أن كل ما سوى الله فهو باطل بوجهي الباطل اللذين تقدم تفسيرهما: أحدهما: وهو المقصود النافع، والباطل ما لا منفعة في قصده، وكل شيء ما خلا الله إذا كان له القصد والعمل كان ذلك باطلاً، والأمر به باطل، وهذا يشبه حال المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله، أو يعبدون الله بغير أمر الله ولا شرعه.

فإن قيل: فالباطل هو نفس القصد والعمل لا نفس العين المقصودة؛ قلت: بل نفس العين المقصودة باطل بالاعتبار الذي قُصِدت له، كما جاء في الحديث: (أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم).

وذلك أنه إذا كان الباطل في الأصل هو العدم والعدم هو المنفي؛ فالشيء ينفى لانتفاء وجوده في الجملة، كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:٣ - ٤].

و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].

وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١]، وقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [الصافات:٣٥].

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي).

وقد ينفى لانتفاء فائدته ومقصوده وخاصته التي هو بها هو، كما ذكرناه، فإن ما لا فائدة فيه فهو باطل، والباطل معدوم].

يعني: والباطل معدوم من هذا الوجه.

قال رحمه الله تعالى: [وهذا (كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان: ليسوا بشيء).

ومنه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:٦٨].

وقد ينفى الشيء لانتفاء كماله وتمامه؛ إما مطلقاً، وإما بالنسبة إلى غيره].

يعني: في الصورة الأولى ينفى الشيء لانتفاء فائدته، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>