[ذكر حصول الهداية والفلاح للمؤمنين وذكر أهل الجنة والنار وأعمالهم ومآلهم]
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ذكره حصول الهداية والفلاح للمؤمنين دون غيرهم ملء القرآن، كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٢ - ٣] الآية، ثم ذم الذين كفروا والذين نافقوا.
وقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:١ - ٣].
وقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:٥ - ٦].
فحكم على النوع كله والأمة الإنسانية جميعها بالخسارة والسفول إلى الغاية، إلا المؤمنين الصالحين.
وكذلك جعل أهل الجنة هم أهل الإيمان، وأهل النار هم أهل الكفر، فيما شاء الله من الآيات، حتى صار ذلك معلوماً علماً شائعاً متواتراً اضطرارياً من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، عند كل من بلغته رسالته.
وربط السعادة مع إصلاح العمل به، في مثل قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧].
وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:١٩].
وأحبط الأعمال الصالحة بزواله، في مثل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:٣٩].
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم:١٨].
وقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران:١١٧] الآية.
وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، ونحو ذلك كثير.
وذكر حال جميع الأمم المهدية أنهم كذلك، في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [البقرة:٦٢] الآية.
ولهذا أمر أهل العقل بتدبره، وأهل السمع بسمعه، فدعا فيه إلى التدبر والتفكير والتذكر والعقل والفهم، وإلى الاستماع والإبصار والإصغاء، والتأثر بالوجل، والبكاء وغير ذلك، وهذا باب واسع.
ولما كان الإقرار بالصانع فطرياً كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) الحديث، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو الذي يُعرف ويُعبد، وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع].
بدأ الشيخ يشير إلى منهج المتكلمين، وهو أنهم يسلكون في تحقيق التوحيد مسلك الإقناع بالإقرار بوجود الخالق، الشيخ عبّر بالصانع وأرى أننا نلتزم اللفظ الشرعي: الخالق؛ لأن شيخ الإسلام يرد على المتكلمين بمصطلحهم، وإلا فالأصل التزام الألفاظ الشرعية، ولذلك كان ينبغي أن يقول: ولما كان الإقرار بالخالق فطرياً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة).
إذاً: أراد بهذا الرد على زعمهم أن أول واجب من أجل إثبات وجود الخالق: النظر، يقول: هذا أمر فطري، فليس بصحيح أنه أول الواجبات، وليس صحيحاً أنه هو المنهج السليم في تحقيق التوحيد؛ لأن الإقرار بالخالق أمر بدهي فطري أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله عز وجل، يعني بربوبيته، والإنابة إليه، يعني بالعبودية، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا قلنا: لا معبود إلا الله، فكيف يُعبد وهو لم يُعرف؟ هذا أمر مستحيل، إذاً: فالإله هو الذي يُعرف ويُعبد، فلا يُعبد إلا وقد عُرف، ولذلك حينما وجّه الله العباد وأمرهم بعبادته دل هذا بالضرورة أنهم ليسوا بحاجة إلى التعريف بوجوده؛ لأنه أمر فطري، إنما هم بحاجة إلى التعريف بعبادته، كيف يعبدونه، وإلى الأمر بأن يعبدوه، لا بأن يقروا بأنه الخالق، فإن هذا أمر تقتضيه الفطر، فالناس كأنهم مجمعون على الإقرار بالله، وما بعد هذا الإقرار هو المطلوب منهم، أما الإقرار فقد كفاهم الله إياه حيث فطرهم عليه، وهو مقتضى فطرة كل إنسان، وإن شذ بعض المختلّين في عقولهم فلا عبرة بهم؛ لأن النادر لا حكم له.