للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مفارقة الطريقة القرآنية للطرق الكلامية]

قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: في مفارقة الطريقة القرآنية الكلامية، أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية، فلا وافقوا لا في الوسائل ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه.

وأما المقاصد فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له فجمع بين قوتي الإنسان العلمية والعملية: الحسية والحركية، الإرادية الإدراكية والاعتمادية: القولية والعملية، حيث قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١] فالعبادة لا بد فيها من معرفته، والإنابة إليه والتذلل له والافتقار إليه، وهذا هو المقصود، والطريقة الكلامية، إنما تفيد مجرد الإقرار والاعتراف بوجوده.

وهذا إذا حصل من غير عبادة وإنابة كان وبالاً على صاحبه وشقاء له، كما جاء في الحديث: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة: عالم لم ينفعه الله بعلمه) كإبليس اللعين، فإنه معترف بربه مقر بوجوده، لكن لما لم يعبده كان رأس الأشقياء، وكل من شقي فباتباعه له، كما قال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٥]].

يعني: أن توحيد الربوبية يقر به جميع الناس، حتى إبليس الذي طرده الله وجعله أصل كل شر، وجعله هو القائد إلى جهنم نسأل الله العافية، هو مقر بالربوبية، بل أحياناً عنده ما هو أعظم من ذلك، أحياناً عنده شيء من الخوف من الله عز وجل لا خوف العبادة بل خوف المعرفة، ولذلك لما تراءى الجمعان نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم، ثم قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:٤٨] فلذلك هذا الكائن الذي جعله الله أصل الشر عنده نوع من الإقرار، بل هو مقر بربوبية الله ومدرك لعظمة الله، ولذلك يخاف الله لا خوف العبادة إنما خوف المعرفة، يعرف الله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [فلا بد أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه، مع أنه معترف بالرب مقر بوجوده، وإنما أبى واستكبر عن الطاعة والعبادة، والقوة العلمية مع العملية بمنزلة الفاعل والغاية؛ ولهذا قيل: العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والمراد بالعمل هنا عمل القلب الذي هو إنابته إلى الله وخشيته له، حتى يكون عابداً له.

فالرسل والكتب المنزلة أمرت بهذا وأوجبته، بل هو رأس الدعوة ومقصودها وأصلها، والطريقة السماعية العملية الصوتية المنحرفة توافق على المقصود العملي، لكن لا بعلم، بل بصوت مجرد، أو بشعر مهيج، أو بوصف حب مجمل، فكما أن الطريقة الكلامية فيها علم ناقص بلا عمل، فهذه الطريقة فيها عمل ناقص بلا علم، والطريقة النبوية القرآنية السنية الجماعية فيها العلم والعمل كاملين.

ففاتحة دعوة الرسل: الأمر بالعبادة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١].

وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)، وذلك يتضمن الإقرار به وعبادته وحده، فإن الإله هو المعبود، ولم يقل: حتى يشهدوا أن لا رب إلا الله؛ فإن اسم الله أدل على مقصود العبادة له، التي لها خلق الخلق، وبها أمروا.

وكذلك قوله لـ معاذ: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) وقال نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:٣]، وكذلك الرسل في سورة الأعراف وغيرها.

وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦].

وقال للرسل جميعاً: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:٥١ - ٥٢].

وقال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:١ - ٤].

وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:٩١].

وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:١ - ٣].

وقال في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

<<  <  ج: ص:  >  >>