[منهج المتكلمين في تقرير الدين والعقيدة]
الملقي: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما عمدة الكلام عندهم ومعظمه: هو تلك القضايا التي يسمونها العقليات وهي أصول دينهم، وقد بنوها على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة].
الشيخ هنا قعّد قاعدة ذهبية جيدة عظيمة رد بها على المتكلمين، فقد ذكر أن عمدة الكلام عند أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يقررون التوحيد بالمصطلحات الفلسفية والعقلانية الكلامية قال: (عمدتهم في ذلك قضايا يسمونها العقلية) يعني: هذه القضايا هي أوهام وتخرصات، ومع ذلك سموها عقلية.
ثم قال: (وهي أصول دينهم) يعني: هم يعتمدون في أصول دينهم على مسألة المصطلحات الفلسفية، وذلك بالبدء بالحديث عن الأعراض والجواهر وما تستلزمه من معان عندهم، وهذه الأصول والقضايا بنوها على مقاييس وهمية، ونحن لا نذم على الإطلاق استعمال العقليات، بل لابد من توظيف العقل لفهم كلام الله عز وجل، والعقل نعمة من الله عز وجل، وهو وسيلة لفهم الشرع، ووسيلة إدراك نعمة الله وتعظيم الله عز وجل، لكن العقل له مدارك محدودة، فالعقل لا يدرك الغيب، وكل ما تحدث به المتكلمون في مسائل العقيدة، في تقرير التوحيد، في وجود الله ووحدانيته وخلقه وربوبيته وأسمائه وصفاته سبحانه، كل ما تكلموا به خلاف ما جاء في الكتاب والسنة، فإنما هي أوهام وتخرصات؛ لأنها غيب، وأنى لهم أن يطّلعوا على الغيب، فمن هنا ذكر الشيخ أن أصول دينهم إنما هي قضايا يسمونها العقليات وبنوها على مقاييس عقلانية ووهمية؛ لأنها غيبية تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، وهذا هو الذي حصل حينما قاسوا الله بخلقه، تعالى الله عما يزعمون، اضطروا أن ينكروا صفات الله؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق، ولأضرب لذلك مثالاً: أهل الأهواء الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية أنكروا استواء الله على عرشه، ليس عندهم ما يقولونه إلا شبهة وهي أن الاستواء يستلزم حاجة الله عز وجل إلى العرش واتكاءه عليه، واعتماده عليه، من أين هذا؟ هذا من قياس الخالق على المخلوق، وإلا من أين أتوا بأن الله لا يمكن أن يستوي على العرش إلا إذا كان محتاجاً إليه؟ لولا القياس لما جاءوا بهذا الأمر، لا يمكن أبداً أن يأتوا بهذه الشبهات إلا بقياس.
إذاً: هم اعتمدوا على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وهم قسمان: قسم بنوا على هذه العقليات القياسية الأصول العلمية دون العملية كالأشعرية، وقسم بنوا عليها الأصول العلمية والعملية كالمعتزلة].
الأمور العلمية هي الاعتقادية، والأمور العملية هي الأحكام.
قال رحمه الله تعالى: [حتى إن هؤلاء يأخذون القدر المشترك في الأفعال بين الله وبين عباده، فما حسن من الله حسن من العبد، وما قبح من العبد قبح من الله؛ ولهذا سماهم الناس: مشبهة الأفعال].
أي: المعتزلة في صفات الله عز وجل في مسألة أفعال الله، ومسألة التحسين والتقبيح قالوا بكلام تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الطباع السليمة، لو قيل هذا الكلام الذي قالوه في حق الله سبحانه حتى عند العوام لاشمأزت نفوسهم منه، يقولون: يجب على الله أن يفعل كذا، ويلزم من الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل، ويلزمه ألا يفعل، من أين هذا؟ من باب قياس الخالق على المخلوق، ولذلك أنكروا أفعال الله عز وجل، بل أنكروا صفات الله؛ لأنهم قاسوا الخالق سبحانه على المخلوق، فلما قاسوا وقعوا في معضلة، فبدل أن يسلموا لله عز وجل بالكمال المطلق ويتركوا القياس بناء على قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، بدلاً من ذلك وقعوا في إنكار كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو تأويله.
قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن هؤلاء هم المتكلمة المذمومون عند السلف؛ لكثرة بنائهم الدين على القياس الفاسد الكلامي، وردهم لما جاء به الكتاب والسنة].
يعني: الجهمية والمعتزلة.
قال رحمه الله تعالى: [والآخرون لما شاركوهم].
الآخرون هم الأشاعرة والماتريدية والكلابية والسالمية والكرامية ومن سلك سبيلهم.
قال رحمه الله تعالى: [والآخرون لما شاركوهم في بعض ذلك لحقهم من الذم والعيب بقدر ما وافقوهم فيه، وهو موافقتهم في كثير من دلائلهم؛ التي يزعمون أنهم يقررون بها أصول الدين والإيمان، وفي طائفة من مسائلهم التي يخالفون بها السنن والآثار وما عليه أهل العقل والدين.
وليس الغرض هنا تفصيل أحوالهم فإنا قد كتبنا فيه أشياء في غير هذا الموضع].
من أكثر ما كتب الشيخ في هذا الموضوع في (درء التعارض) وفي (تلبيس الجهمية) وفي (منهاج السنة).