للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فصل في الاتحاد المطلق]

قال رحمه الله تعالى: [فصل.

فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد الذي فيه نوع حق تبين أيضاً ما في المطلق من ذلك.

فنقول: لا ريب أن الله رب العالمين، رب السماوات والأرضين وما بينهما، ورب العرش العظيم، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، ربكم ورب آبائكم الأولين، رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وهو خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.

خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى.

وهو رب كل شيء ومليكه، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الرحمن على العرش استوى، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم.

قلوب العباد ونواصيهم بيده، وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهو الذي أضحك وأبكى، وأغنى وأقنى، وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وينزل من السماء ماءً، فيحيي به الأرض بعد موتها.

ويبث فيها من كل دابة.

وهو الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه ترجعون، وهو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القاسم بالقسط، القائم على كل نفس بما كسبت، الخالق البارئ المصور، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وما شاء الله لا قوة إلا بالله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه.

فهذه المعاني وما أشبهها من معاني ربوبيته وملكه، وخلقه ورزقه، وهدايته ونصره، وإحسانه وبره، وتدبيره وصنعه، ثم ما يتصل بذلك من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، يبصر دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء.

فهذا كله حق، وهو محض توحيد الربوبية، وهو مع هذا قد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين.

وهذا صنع الله الذي أتقن كل شيء، والخير كله بيديه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما أقسم على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله، لله أرحم بعباده من هذه الوالدة بولدها)، إلى نحو هذه المعاني التي تقتضي شمول حكمته وإتقانه، وإحسانه خلق كل شيء، وسعة رحمته وعظمتها، وأنها سبقت غضبه، كل هذا حق.

فهذان الأصلان: عموم خلقه وربوبيته، وعموم إحسانه وحكمته، أصلان عظيمان، وإن كان من الناس من يكفر ببعض الأول، كالقدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه، ويضيفونها إلى محض فعل ذي الاختيار، أو الطبعية الذين يقطعون إضافة الفعل إلى الله سبحانه، ويضيفونه إما إلى الطبع، أو إلى جسم فيه طبع، أو إلى فلك، أو إلى نفس أو غير ذلك مما هو من مخلوقاته العاجزة عن إقامة نفسها، فهي عن إقامة غيرها أعجز.

ومن الناس من يجحد بعض الثاني أو يعرض عنه، متوهماً خلو شيء من مخلوقاته عن إحسان خلقه وإتقانه، وعن حكمته، ويظن قصور رحمته وعجزها، من القدرية الإبليسية، أو المجوسية وغيرهم].

كل هذه المذاهب موجودة في طوائف الفرق، الصنف الأول الذين أخلوا بالأصل الأول: عموم الخلق والربوبية: هم القدرية، والذين أشار إليهم الشيخ هنا المجوسية والقدرية، وهم القدرية الأولى والثانية، والقدرية الأولى: القدرية المعبدية والغيلانية، الذين نفوا تقدير الله عز وجل لجميع أفعال العباد، بل نفوا جميع مراتب القدر، وأن الله عز وجل لم يعلم ولم يكتب، ولم يقدر أفعال العباد، ثم بعد ذلك لما صدم بالنصوص، وكفر السلف من أنكر العلم، وقفوا عند إنكار التقدير، وزعموا أن الله عز وجل لم يقدر بعض أفعال العباد، وهذا هو الذي عليه القدرية الثانية قدرية المعتزلة.

فهؤلاء أخلوا بالأصل الأول وهو عموم خلق الله وربوبيته، فجعلوا خلق الله ليس عاماً، إنما جعلوا معه خالقاً من دونه سبحانه، كما فعلت المجوسية، فزعموا أن الإنسان خالق أفعاله، وبعضهم لم يصرح بالخلق، لكنه يلزمه؛ لأنهم زعموا أن أفعال العباد أو بعضها ليست من تقدير الله، تعالى الله عما يزعمون وهذا شرك في الربوبية ولا شك.

إذاً: تكون من تقدير من؟ لا بد أن تضاف إلى مقدر، فزعموا أن الإنسان هو الذي يقدر، فهؤلاء جعلوا الإنسان خالقاً مع الله، تعالى الله عما يزعمون، هذا الصنف الأول.

أما الصنف الثاني: فهم الذين أخلوا بعقيدة عموم الإحسان من الله والحكمة، وهم طائفة من المتكلمين، ومنهم متكلمة الأشاعرة، فإنهم نفوا الحكمة والتعليل في أفعال الله عز وجل، وترتب على هذا -وإن كان ليس

<<  <  ج: ص:  >  >>