[الفرق بين كلمات الله وإرادته الكونية والشرعية]
قال رحمه الله تعالى: [أما الأول: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني].
الأول: تمييز الألوهية عن الربوبية، الذي ينبثق عنه تمييز الرب عن الخلق، والربوبية هي أفعال الله عز وجل، والألوهية عبادة العباد لله، وفرق بين الفاعل هنا والفاعل هنا، وبين العابد والمعبود، هذا من وجه، وكذلك من وجه آخر التفريق بين هذا وهذا من حيث الاعتقاد والعمل.
قال رحمه الله تعالى: [أما الأول: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني، فإن الله سبحانه خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته.
وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم؛ فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته.
وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق.
ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية].
التمييز بين الفئتين ظاهر، الأولى: القدرية المجوسية الذين ينكرون قدر الله أو بعض قدر الله، وهم قدرية المعتزلة التي هي امتداد للقدرية الأولى القدرية المعبدية معبد الجهني وغيلان الدمشقي، فالقدرية الأولى أنكرت جميع تقدير الله عز وجل في أفعال العباد، ثم بعد ذلك خففت الأمر وجعلت بعض أقدار الله أو بعض مراحل مراتب القدر ليست من تقدير الله، فزعموا أن أفعال العباد ليست من تقدير الله، ثم بعد ذلك وصلوا إلى مرحلة أضيق أو أخف وإن كانت شراً أيضاً، وهو أن بعضهم زعم أنا لا نخرج من أقدار الله إلا أفعال الشر، زعموا أن أفعال الإنسان التي يفعلها في الشر ليست من تقدير الله، وهذا يجعل بالضرورة أن هناك مقدراً مع الله، أي: خالقاً مع الله، فهؤلاء يسمون: القدرية المجوسية، لماذا يسمون بالمجوسية؟ لأن المجوسية تعبد إلهين، وفلسفتهم في عبادة الإلهين أنهم يقولون: الإله الأصل وهو الله عز وجل هو إله الخير، لكنه لم يقدر الشر بزعمهم، فلما أخرجوا تقدير الشر عن الله، أسندوه إلى الشيطان، فزعموا أن الشيطان هو الذي خلق الشر، فلما زعموا ذلك عبدوه مع الله، فعبدوا إلهين، والقدرية في الإسلام على هذا المنهج، لكنه منهج أخذ أسلوب أهل الأهواء، أخذ مصطلحات شرعية وإسلامية واستدلالات فيها تلبيس، فهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأخذوا المتشابهات وجعلوها مسلكاً، فزعموا أن الإنسان مقدر أفعاله، وبعضهم صرّح أن الإنسان خالق أفعاله، إذاً: أثبتوا خالقاً مع الله، كما أثبتت المجوسية إلهاً غير الله، فسموا بالقدرية، وهذا المذهب موجود إلى الآن في أتباع المعتزلة، بعض الناس يظنه قد انقرض، أبداً لا يزال أناس من كبار المفكرين الموجودين الآن يقررون هذا، بل إنهم زادوا أمراً عجيباً ما تكلمت به أكثر المعتزلة، فأكثر المعتزلة ما يجرءون أن يقولوا: إن الإنسان خالق مع الله، بهذا اللفظ، وإنما يقولون: الإنسان يقدر أفعاله، الإنسان مسئول عن أفعاله، الله لم يقدر أفعال الإنسان، أكثر المعتزلة على ذلك، أما المعتزلة المعاصرون فقد قرأت لعدد منهم يقولون: إن الإنسان خالق أفعاله، تعالى الله عما يزعمون، هذه قدرية موجودة، فكثير من العصرانيين العقلانيين على هذا المذهب، ليس إلزاماً لهم، لا، بل صرّحوا به، فهم ما بين مصرح بهذا اللفظ، وما بين من تابع المعتزلة بإجمال، ومنهم من تابع المعتزلة بالتفصيل، ومنهم من تابع المعتزلة وزاد عليها، فيظهر لي أن المعتزلة رغم انحرافهم، ورغم ما ظهر منهم من الابتداع وأقيمت عليهم الحجة فلم يرجعوا، إلا أنهم مع ذلك أكثر مداراة للعقيدة السليمة وللمسلمين من المعتزلة المعاصرة، أولئك عندهم شيء من الخوف أو نوع من ترويج المقولة، فليس عندهم تصريح بهذا المذهب من القول بأن الإنسان خالق أفعاله، أو القول بأن الله لم يخلق أفعال العباد، فهم لم يصرحوا بأن الإنسان خالق أفعاله كما صرحت المعتزلة الجديدة.
الفئة الثانية عكس هؤلاء تماماً: وهم القدرية المشركية، فهؤلاء هم الجبرية، وهم عكس القدرية.
الجبرية: هم الذين زعموا أن الإنسان ليس له أي إرادة ولا حرية، فهو مسيّر تسيير كامل، ولذلك لا عليه أن يعمل أي شيء، حتى إنهم لا يؤاخذون الكافر على كفره، ولا المنافق على نفاقه، ولا يؤاخذون المشرك على شركه، فضلاً عن أن يؤاخذوا الفاجر على فجوره، ويقولون: ما دام أن الإنسان عرف الله فيكفيه ذلك؛ لأنه إن عمل شراً فذلك راجع إلى أن الله قدّر عليه ذلك، فهو مجبور وليس محاسباً ولا مؤاخذاً، وهؤلاء هم جبرية الجهمية التي انتهت إلى الصوفية الطرقية.
ومذهب القدرية المشركية هو الذي عليه أكثر الطرقية الصوفية، خاصة الغلاة الكب