[قصة أصحاب الجنة وما فيها من دروس وعبر]
تتحدث الآيات بعد ذلك عن قصة أصحاب الجنة، قوم ابتلاهم الله بالنعمة، فالنعمة بلاء والفقر بلاء والمرض بلاء والسجن بلاء والولد بلاء، فالبلاءات متعددة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:١١]، ولابد من البلاء؛ لأننا خلقنا للبلاء، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢].
قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:١٧] أي: كفار قريش، أرسلنا إليهم النعمة المسداة والرحمة المهداة، خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءتهم هذه النعمة جحدوها، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:١٧]، أَصْحَابَ الْجَنَّةِ شباب ورثوا حديقة من أب صالح.
قال بعض المفسرين: وكانت عنباً، والمعنى يتضح بعموم اللفظ وخصوص السبب، فلما ورثوها تعاهدوا فيما بينهم أن يمنعوا المسكين والفقير من حقه، وألا يعطوا أحداً منها شيئاً، أما علموا أن الذي رزقهم هو الله؟ أبداً، {إِذْ أَقْسَمُوا} [القلم:١٧] أي: تعاهدوا وعزموا وأصروا، {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:١٧] (يصرمنها) يعني: يحصدونها في الصباح الباكر، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:١٨]، المعنى الأول لقوله: (لا يَسْتَثْنُونَ) لم يقولوا: إن شاء الله، والمعنى الآخر: لا يتركون منها شيئاً على الإطلاق، وناموا على تلك النية، جاء في الأثر: (أن العبد يقدر الله له رزقاً، ولا يكون بينه وبين الرزق إلا القليل، فيعصي ربه، فيحرمه الله ذلك الرزق بسبب ذنبه).
قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:١٩] حصدوا رماداً وتراباً بدلاً من أن يحصدوا ثمراً؛ بسبب سوء نيتهم ومعصيتهم.
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:٢٠]، أي: كالليل المظلم.
ومعنى (طائف): آفة سلطها الله على الحديقة، فحصدتها فدمرتها، فحولتها إلى سواد مظلم بسبب خبث النية، أيها العاصي! أفق! انتبه! اعلم أن الله يعلم السر وأخفى.
وقاموا في الصباح {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم:٢١] أي: نادى بعضهم على بعض: هيا بنا! قبل أن يستيقظ أحد، وقبل أن يراكم أحد، فقوله: {أَنِ اغْدُوا} [القلم:٢٢]، من الغدو، {عَلَى حَرْثِكُمْ} [القلم:٢٢] أي: على زرعكم، {إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:٢٢] أي: إن كنتم قد نويتم وعزمتم على أن تحصدوها، {فَلَمَّا رَأَوْهَا} [القلم:٢٦]، أي: وصلوا إلى الحديقة، الطريق هو هو، نظروا إليها بالليل خضراء مزهرة يانعة يافعة، وفي الصباح أصبحت رماداً، ما الذي حدث؟ فلما نظروا إليها: {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:٢٦] أي: لقد ضللنا الطريق، لم ندخل في الطريق الصحيح، تحققوا أنها هي قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم:٢٧] أي: لقد حرمنا النعمة بسبب كفرنا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧]، فيا من تكفر بنعمة الله! إن تحولت النعمة إلى نقمة فذلك بسبب معصيتك.
يقول ربنا سبحانه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:٢٨] أي: أعدلهم وخيرهم وأفضلهم، {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} [القلم:٢٨ - ٢٩] بعد فوات الأوان، ندم بعد مصيبة، وتوبة بعد فوات وقتها.
وفي الآيات درس مهم، وهو إن أمرتَ بمعروف أو نهيت عن منكر ولم يمتثل من تأمره لابد أن تنتهي أنت عن المنكر، فهذا الرجل أوسطهم نصح، ولكنه بعد أن نصح شارك فما قيمة النصيحة؟ قال لهم: (لولا تسبحون) بعد ذلك وقبل ذلك، لكنه سار معهم في الطريق، فالمنكر إما أن تغيره وإما أن تنتهي أنت عنه؛ ولذلك إخوتي الكرام! كانت النتيجة عامة: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم:٣٠]، وهكذا المعصية صاحبها يلوم نفسه بعد وقوعها: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم:٣٠ - ٣١]، تابوا إلى ربهم وأنابوا إليه، وعلموا أن شكر النعمة هو الذي يبقيها.