[موقف الإمام أحمد من القائلين بخلق القرآن وصبره وثباته]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فهناك شريط هو في الحقيقة طيب، وأنا لست طرفاً فيه حتى لا يقول قائل: إن الشريط للشيخ وهو يعمل دعاية، وهو نصيحتي للشباب، هذا الشريط فيه أكثر من عشرة علماء: الشيخ: محمد حسان، والشيخ: أبو إسحاق وغيرهما، يحاورون الشباب في مشاكلهم الاجتماعية بشكل مباشر، فالحقيقة هو عمل طيب، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خيراً.
إن قصة نوح عليه السلام فيها من الدروس والعبر ما فيها لأصحاب الدعوات، والبلاء في حياة أصحاب الدعوة مما لا شك فيه، هو مَعْلَمٌ من معالم الطريق، وإن تحدثنا عن سيرة ابن حنبل فسيطول بنا الحديث، إلا أننا من الأهمية أن نتحدث عن سيرتهم؛ وقد قلت: إنه ولد في بغداد ومات فيها في عهد الدولة العباسية، وقد مر على بغداد خلفاء كثر من العباسيين، كـ هارون الرشيد ومن بعده كـ المأمون بن هارون الرشيد، ثم من بعد المأمون المعتصم، ثم الواثق، وهؤلاء هم الذين يهمنا في الموضوع، إذ قد تقرب علماء المعتزلة من المأمون، ودائماً وأبداً حينما تريد أن تؤثر على قرار لابد أن تتقرب إلى من يملك القرار، فعلماء المعتزلة تقربوا إلى المأمون حتى آمن بمعتقدهم، هذا المعتقد الفاسد الذي يقول بخلق القرآن! ومعلوم أن القرآن كلام الله، وكلام الله غير مخلوق؛ لأننا نقول: كل مخلوق يحتاج إلى خالق ومصيره إلى الفناء، وعليه فحينما نقول: إن كلام الله مخلوق، أي: أن الله لم يكن متكلماً ثم تكلم ومآل ذلك إلى الفناء، وهذا الكلام قدح بالله عز وجل.
ومن قال: إن القرآن مخلوق فهو زنديق، وهذا قول الإمام أحمد، وصفات الله عز وجل قديمة، وأزلية، وأسماؤه هي ذاته، فلا فرق بين الاسم والذات، لأنك إن قلت: الرحمن الرحيم، فالله هو الرحمن وهو أيضاً الرحيم، وكذلك إذا قلت: المؤمن المهيمن العزيز الجبار الغفار، فالله هو المؤمن والمهيمن والعزيز والجبار والغفار.
إذاً: كل الأسماء هي ذاته، فلا فرق بين الأسماء والذات، وهذه نقطة مهمة جداً، وليس كما قالت الجهمية والمعتزلة: إن تعدد الأسماء يعني تعدد الذوات، وهذا يعتبر تشريكاً مع الله، وهو الشرك بذاته، يقول الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}[الإسراء:١١٠]، فالرحمن هو الله، ولا فرق بين الرحمن وبين الله، فأسماؤه هي ذاته، وهذه هي قواعد الأسماء والصفات المهمة جداً.
فالمهم أن المعتزلة أقنعوا المأمون بأن القرآن مخلوق، فأرسل المأمون إلى أحمد إمام أهل السنة والجماعة، والذي كان يجتمع في مجلسه الواحد ليس عشرة آلاف أو خمسين ألفاً، بل مائة ألف، والناس تأتي إليه لتأخذ العلم منه، وقد جاء المأمون بعلماء بغداد كلهم فآمنوا كلهم بفكرة خلق القرآن، حتى وصل إلى ابن حنبل الذي قال: كلام ربي غير مخلوق، فقال له من أرسله الخليفة: ارجع عن هذا وإلا قتلناك، فهددوه بالقتل، وظل من حوله يساومونه في أن يقول هذه الكلمة تقية يتقي بها القتل، أو يحاول أن يقولها مكرهاً، وفرق بين إكراه العالم وإكراه المسلم العادي، فيوم أن تُكره أنت لا أحد يمشي خلفك، لكن عند يُكره العالم ويزل فهذه مصيبة عظمى؛ لأن زلة العالم زلة عالم؛ لأن العالم أسوة وقدوة، فـ أحمد لو قال: إن القرآن مخلوق من سيقلده؟ لاشك أن الناس العوام الذين يحضرون الدرس سيقلدونه في هذه الكلمة، فأبى أحمد ذلك.
وبينما الإمام أحمد في طريقه إلى المأمون حتى ينفذ فيه إما القول وإما القتل، قال: يا رب اللهم لا تجمع بيني وبين المأمون أبداً، فجاءه الخبر بأن المأمون قد مات! فاستجاب الله لدعائه رحمه الله تعالى، فآل الحكم إلى المعتصم الذي سجن أحمد ثمانية وعشرين شهراً، أي: سنتين وأربعة شهور، حتى إنه كان يربطه في ذيل البغل ويجره في شوارع بغداد، وذلك تمثيلاً به، وأحمد يأبى أن يقولها، ومع ذلك كان يجلد جلداً عظيماً، وفعلوا به ما فعلوا على أن يقول: إن القرآن مخلوق، حتى قال له بعض العلماء: يا أحمد قل: هذا مخلوق وأشر إلى إصبعك تعريضاً، لكن الناس لا تفهم ذلك، فأنا أعرض على نفسي ولا أقصد القرآن حتى أنجو بنفسي من العذاب، لا؛ لأن زلة العالم زلة عالم، وهؤلاء علماء ربانيون، وهذا عالم يصدر فتوى في سبتمبر سنة (٨٩م) يقول فيها: إن فوائد البنوك حلال! وقبل ذلك في نفس العام وفي فبراير تصدر عنه فتوى تقول بحرمة فوائد البنوك، فيا عبد الله! اتق الله فأنت الذي قلت وأنت التي فكرت، وما الذي غير وجهة النظر من فبراير إلى سبتمبر؟! وبعد مرور زمن مات المعتصم، فجاء بعده الواثق العباسي، فأخرج