[أدب الخلاف]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أحبتي الكرام! أعود فأكرر أسباب الخلاف الستة حتى يخرج المستمع وهو على علم بها: أولاً: غياب الدليل عن المخالف.
ثانياً: عدم معرفة المخالف بنسخ الدليل.
ثالثاً: نسيان الدليل من المخالف.
رابعاً: الفهم الخاطئ للدليل.
خامساً: الاعتماد على حديث ضعيف، أو أن يكون الاستدلال استدلالاً ضعيفاً.
سادساً: رد الدليل لعدم الوثوق به.
هذه بعض أسباب اختلاف العلماء إلا أنها أسباب متعددة، جمعها شيخ الإسلام في كتاب يحمل عنوان: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
الآن ضاع الأدب، نجد البعض يقف وينسى نفسه فيعرّض بعالم من علماء السلف، ويقول: أخطأ في كذا، وكان حري به أن يقول كذا، ولكنه غفل ووهم، نعم لا بأس أن نقول: إن الرأي الراجح كذا، وغفر الله للمخالف، هذا هو الأدب، فمن الأدب أن نعذره؛ لأنه يقيناً ما وصله الدليل، ويقيناً ما أراد أن يخالف الحق (فإن العالم إذا اجتهد فأصاب له أجران، وإن اجتهد فأخطأ له أجر)، ففي الحالتين هو مأجور أخطأ أم أصاب، لكن العيب كل العيب أن نتتبع زلات العلماء وعثراتهم، وأن نشهر ونعرض بهم، وأن نصم الآذان عن سماع العالم؛ لأجل أنه أخطأ في مسألة، أو جانب الصواب في مسألة، فلا تسمع له، ولا تحضر مجلسه.
يرحمك الله اتق الله في نفسك، ما رأينا إماماً منع طلابه من حضور مجلس عالم آخر؛ لأنه خالفه في الرأي، وكان الإمام الشافعي يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
ويقول الإمام مالك: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
فمن آداب الخلاف أن تتلقى العلم من المخالف، فـ أبو هريرة تعلّم من شيطان، وهناك فريق يظنون أنهم أعلم أهل الأرض، ويظنون أنهم الأم وما سواهم خارج، ولا يسمعون إلا لأنفسهم، ضلوا -والذي نفسي بيده- وأضلوا، وسيعلمون يوم القيامة -إن شاء الله- ما نقول؛ لأن هذا يخالف منهج السلف.
فمثلاً: أنا أرى وجوب إعفاء اللحية، لكن عندما أرى عالماً حليقاً لا أسمع له، وأصد عنه الناس؛ لأنه ارتكب مخالفة بترك واجب، فهذا خطأ، لكن أقم عليه الحجة، وخذ ما عنده من علم، وإلا تكون قد ضيعت الكثير، وغلقت على نفسك الباب، انظر يا عبد الله إلى أبي هريرة يقول: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ صدقة الفطر)، أي: أقوم بحراستها.
والراجح أن تخرج زكاة الفطر عيناً خلافاً للأحناف في إخراجها نقداً.
قال أبو هريرة: (فإذا برجل يحثو من مال الصدقة، فأمسكت بيده، فشكى قلة المال وكثرة العيال وضيق الحال، فتركته رأفة بحاله، ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا هريرة ما صنع أسيرك البارحة؟ فقلت: يا رسول الله شكى كذا وكذا، وأخبرني أنه لن يعود، قال: كذبك وسيعود، وفي اليوم التالي جاء يحثو من المال فأمسكت به فشكى قلة المال وكثرة العيال فتركته، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: كذبك وسيعود، وفي اليوم الثالث قلت: لن أتركك حتى أرفعك إلى رسول الله، قال: اتركني على أن أعلمك -هو يعلم أن هؤلاء يحرصون على العلم-، قال: علمني، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فلا يزال عليك من الله حافظاً حتى تصبح، فأخبرت رسول الله بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقك وهو كذوب)، الكاذب قد يصدق، وصاحب الباطل قد يقول حقاً.
قد يقرأ الواحد منا في أحد الكتب فيقول: هذا الكتاب يحرق؛ لأن فيه تأويلاً، وهذا الكتاب يحرق؛ لأن فيه مخالفة، يا عبد الله خذ الحق واترك الباطل، هذا منهج السلف، منهج السلف أن ينقب عن الحق، وكم حرم هؤلاء أنفسهم من خير كثير؛ لأنهم أغلقوا أعينهم وصموا آذانهم إلا ما اعتقدوا فقط.
ثم أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث منه مع ذلك الرجل، فقال رسول الله: (صدقك وهو كذوب، أتدري من كان معك يا أبا هريرة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك شيطان)، لما علم أبو هريرة أنه شيطان هل نفذ الوصية أم لم ينفذ؟ فعل ما أمره به أم لم يفعل؟ هل قال: هذا شيطان يعلمني فلن أفعل ما قال؟ يا عبد الله أحياناً صاحب الباطل قد ينطق بالحق، وأحياناً تجد في كتب محظورة حقاً، لكن هذا ليس على إطلاقه، وإنما لمن استطاع أن يفرق بين الحق والباطل، إن كنت عالماً فأقدم وخذ الحق واترك الباطل.
أما أن نسمع من يقول: الإمام النووي مؤول لا نقرأ كتبه، وابن حجر أشعري في بعض عقيدته فتحرق كتبه، فلان ضل فأتلفوا كتبه، فهؤلاء أحرقوا المواد العلمية؛ لسوء فهم.
وأنبه إلى أمر هام قبل أن نترك هذا المجال فأقول: إن الناس في هذه الإجازة الصيفية تنقسم إلى قسمين: فريق يدعو إلى النار، وفريق يدعو إلى الجنة، فريق يدعو إلى السين