للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مواطن ذم الحياء]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

وبعد: فقد جاء في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يعظ أخاه في الحياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

فالحياء كما يحمد في مواطن فإنه يذم في مواطن، فلا حياء في طلب العلم، تقول عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من الفقه في الدين.

وأخرج البخاري في كتاب العلم (باب لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر) حديث عبد الله بن عمر الذي قال فيه: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخرج علينا يوماً، وهو يأكل جماراً) والجمار قلب النخلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقرب لأصحابه فهم السؤال، وهذا معناه: أن السائل ينبغي عليه أن يرمز لمن يسأله برمز حتى يوضح له السؤال، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج بجمار ليختبر الأفهام، وهذا من باب تفاوت الأفهام، ولذلك أقول الأصل في السؤال أن يكون مشافهة، فيا ليتنا نأخذ هذا المبدأ في دروسنا، المشافهة هي الأصل، الورقة استثناء؛ لأن الورقة صماء، انظروا إلى الأحاديث والآيات كان الصحابة وغيرهم يسألونه صلى الله عليه وسلم والنبي يجيب، ما كتب أحدهم ورقة أبداً، إنما كان يسأل مباشرة، فهذا الأعرابي يقول: (يا رسول الله متى الساعة؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أين السائل عن الساعة؟) فالسؤال بالمشافهة يعطي فرصة النظر في حال السائل، والإجابة تختلف باختلاف السائل، وهذا هو أصل، أما الورقة فلا تبين لك حال السائل.

لذلك ابن سيرين لما جاءه رجل وقال: يا إمام إني رأيت في المنام أني أؤذن؟ فـ ابن سيرين بعد أن نظر إلى وجهه وبه سمت الصالحين قال: أبشر فستحج بيت الله، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:٢٧].

وجاء رجل آخر وقال: يا إمام إني رأيت أني أؤذن؟ وهذا نفس السؤال الأول، لكن الشخص مختلف، فاختلفت الإجابة؛ لأنه نظر إلى وجهه فإذا فيه سمت اللصوص، فقال: أبشر فستسرق وتقطع يدك، يقول تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:٧٠].

فكانت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم تختلف باختلاف حال السائل، فسائل يقول: (يا رسول الله أوصني، قال: لا تغضب).

وآخر يقول: (يا رسول الله أوصني، قال: لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله)، وآخر يقول له: (قل آمنت بالله، ثم استقم).

وآخر يقول له: (أطعم الطعام، وأفش السلام، وصل بالليل والناس نيام).

كل سائل على حسب حاله، أما الورقة فإنها صماء لا تبين حال السائل، رجل يستفتيك في طلاق قام وهو سريع الطلاقات، يتلفظ بالطلاق مائة مرة في المجلس الواحد، فهذا يحتاج إلى تكدير وتغليظ، يختلف عن حال آخر.

قال ابن عمر: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جماراً، ثم سأل: إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها أخبروني ما هي؟، فوقع الصحابة في شجر البوادي، قال ابن عمر: وكنت أصغر القوم فدار في نفسي أنها النخلة، لكني استحييت أن أتحدث في وجود كبار أصحاب رسول الله)، وإذا قارنا بين حال عبد الله بن عمر وحال بعض طلاب العلم الذين يكونون بين العلماء، فإذا طرحت مسألة إذا به يفتي في حضورهم، ويتحدث في وجودهم، يا عبد الله استح من نفسك، لا تتحدث قبل أن يتحدث العالم، والبعض إن تحدث العالم قاطعه قائلاً: هذا خطأ، لقد قرأت في كتاب كذا، يا رجل استح واعلم كيف تتكلم عند سؤال العالم، فهناك آداب في السؤال، وهناك آداب في طلب العلم ينبغي أن تراعيها، ولذلك ابن عمر استحيا، فعجز الصحابة الحضور عن الإجابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها النخلة)، فقال ابن عمر لأبيه: يا أبي لقد حدثتني نفسي أنها النخلة ومنعني الحياء، قال: يا ولدي لقد كان أحب إلي من كذا وكذا أن تخبر بها رسول الله.

أراد البخاري لفقهه العالي في تبويبه أن يبين هذا المعنى فيقول: من استحيا فأمر غيره بالسؤال، يعني ابن عمر استحيا، كان واجب عليه أن يخبر أباه حتى يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عن علي يقول: (كنت رجلاً مذاء -أي كثير المذي-، فكنت أغتسل في الشتاء حتى كاد ظهري يتشقق من كثرة الغسل، فأردت أن أسأل رسول الله لكن منعني الحياء)؛ لأنه زوج فاطمة وهي ابنة النبي صلى الله عليه و

<<  <  ج: ص:  >  >>