السبب الأول: غياب الدليل عند المخالف: خالفتك؛ لأن الدليل ليس عندي، وأنت عندك الدليل، ومن الأمثلة على ذلك: بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام أول خلاف دب في الأمة على موته، وقد كان الصحابة في حال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون إليه في الخلاف، فيحسم الخلاف، ويسألونه عما أشكل فيبين، وأنتم تعلمون ما حدث بين الصديق وبين عمر وبين بعض الصحابة، حتى إن عمر أشهر سيفه وقال: من قال: إن محمداً قد مات لأضربن عنقه، ما مات محمد وإنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران.
اختلفت الآراء حتى ألهم الله الصديق آية نزلت قبل ذلك، فقام الصديق: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال كلمته المأثورة: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:١٤٤]، عند ذلك سلّم الكل لأمر الله، فالدليل مع الصديق واضح.
وفي البخاري أيضاً: بعد موت رسول الله عليه الصلاة والسلام اختلفوا في مكان الدفن أين سيدفن؟ قال قائل: يدفن في البقيع، وقال بعضهم: بل نخصه بمكان، واختلفت الآراء حتى جاء الصديق وقال: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يدفن الأنبياء حيث ماتوا)، وحسمت المسألة بالدليل.
وفي صحيح البخاري من حديث عمر رضي الله عنه: لما قدموا أرض الشام فسمعوا أن بها طاعوناً، فقال بعضهم: ندخلها حتى لا نفر من قدر الله، وقال الآخرون: لا، لا بد أن نأخذ بالأسباب ولا ندخل؛ لأن ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان في حاجة له، ثم قال لهم: لقد سمعت من رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوا إليها، وإن كنتم بها فلا تخرجوا منها)، وهذا يدل على أنه قد يغيب الدليل عن عالم ويكون عند عالم آخر، ولكن بمجرد وصول الدليل ينبغي في الحال أن نقبله بدون تردد ولا تلكؤ.
وهذا كثير للمتتبع للخلاف بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.