٢ - أنه لا يسلم لليهود صحة كتبهم المقدسة لديهم وما احتجوا بها من نصوص، فقد أثبت القرآن الكريم أنهم تجرؤوا على كتب الله المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بالتحريف والتزوير والتغيير قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ .... [المائدة: ١٣]. وهذا ما سنبينه ونذكر الشواهد والأدلة عليه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
٣ - وعلى فرض التسليم لهم -جدلاً- صحة ما استدلوا به على الوعد الإلهي من كتبهم، فإنا نقول: إن الوعد الإلهي قد أعطي لإبراهيم أولاً عند وصوله أرض كنعان ولم يولد له ولد حينئذ (تكوين ١٢/ ٧)، وتكرر الوعد حين رجوعه إلى أرض كنعان من مصر (تكوين ١٣/ ١٥)، ثم تكرر الوعد ولم يكن لإبراهيم ولد (تكوين ١٥/ ١٨)، ثم تكرر الوعد لإبراهيم بعد أن ولد له إسماعيل عليهما الصلاة والسلام (تكوين ١٧/ ٨).
بناء على ذلك فالوعد الإلهي من حق إسماعيل عليه الصلاة والسلام جدُّ العرب والمسلمين دون غيره؛ لأن إسحاق الابن الثاني لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام لم يولد بعد.
فإن قيل: بأن الوعد الإلهي لهم بالأرض المقدسة إرثٌ وموطنٌ أبديٌ قد ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينََ [المائدة: ٢٠ - ٢١].
فالجواب: أنه بقطع النظر عن كون يهود اليوم هم غير بني إسرائيل القدماء- كما بيناه من قبل - وأن ما جاء في الآية لا يعنيهم؛ لأنها لا تشمل من دان باليهودية من غير بني إسرائيل، وهم معظم أو كل يهود اليوم، فإن الحق في هذا الأمر الذي عليه جمهور المفسرين هو أن عبارة الآية ليست على التأبيد، وإنما هي خاصة بالزمن الذي وعدوا فيه بذلك، ونتيجة لما كان من استجابتهم لأوامر الله وصبرهم، وذلك الجزاء لإيمانهم وتفضيلهم على عالمي زمانهم سنَّة إلهية في عباده عزَّ وجلَّ، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: ١٠٥].
فلما أنحرف بنو إسرائيل عن دين الله الحق، وارتدوا وفسدوا وأفسدوا في الأرض، لم يعد لهم حقٌّ بالتمسك بالوعد الإلهي لهم، بل كان الجزاء عليهم بما تضمنته الآيات الكريمة بلعنة الله عليهم وغضبه وعقابه بتشتيتهم في الأرض، وتسليط من يسومهم سوء العذاب عليهم إلى يوم القيامة، وضرب الذلة والمسكنة عليهم أين ما ثقفوا جزاءً لنقضهم مواثيق الله وكفرهم بآياته.
٤ - كما يمكن القول أيضاً أن وعد الله لهم قد تحقق بعد موسى عليه الصلاة والسلام حينما دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون - فتى موسى عليهما الصلاة والسلام - وأقاموا فيها زمن داود وسليمان عليهما السلام حينما فضَّلهم الله عزَّ وجلَّ على عالمي زمانهم، ولكن حينما كفروا بالله وفسدوا وأفسدوا في الأرض غضب الله عليهم، فعذبهم وسلَّط عليهم من يسومهم سوء العذاب، وحرمهم من الأرض المقدسة، وشرَّدهم وشتَّتهم في الأرض.
وأما فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان الوعد أبديًّا ولا يمكن نسخه: فيقول الدكتور الفرد جلوم - أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة لندن- بأنه لم يقطع إطلاقاً أي وعد غير مشروط بأن التملك سيكون أبديًّا، هذا مع أن المقصود كان فترة طويلة غير محددة. اهـ.