[المطلب الثامن: مراحل انتشار البوذية:]
إن التاريخ الإجمالي للبوذية يقرِّر أن هذه الديانة واصلت سيرها طوال خمسة وعشرين قرنا، وفي خلال هذه الفترة الطويلة تطورت البوذية سواء من ناحية العقيدة أو التطبيق أو الأدب أو المؤسسات المرتبطة بها، كالمعابد والمعاهد، وقد اقتحمت البوذية حوالي ثلاثين قطرا في آسيا، وكان تأثيرها عظيما في آداب هذه الأقطار وفي اتجاهاتهم الدينية، ومنذ القرن التاسع عشر اتصل الفكر البوذي ببعض دول أوربا، فأصبح للفكر البوذي أثره في الفلسفة الغربية والأدب الأوربي والموسيقى وغيرها من الفنون الثقافية.
ذلك مجمل القول نحو تمدد البوذية وانتشارها ولكن إعطاء تفاصيل عن هذا الانتشار يكاد يكون أمرا متعذرا لقلة المادة الدقيقة عنه، ومن الممكن على كل حال لو قسمنا عمر البوذية إلى خمسة مراحل، كل مرحلة خمسة قرون أن تعطى أبرز التطورات عن البوذية في كل من هذه المراحل.
شهدت الفترة الأولى (من مطلع البوذية حتى القرن الأول الميلادي) تحولا كبيرا في العقيدة البوذية فيما يتصل ببوذا، فقد كان في أول هذه الفترة يعد معلما ورجلا عظيما ورائدا عالميا ثم أصبح بمرور السنين رجلا مقدسا فمعبودا فإلها، ولم يكن ذلك التطور الواسع باتفاق الجميع، ولذلك عقدت عدة مؤتمرات للتوفيق. ولكنها لم تستطع أن تقنع الجماهير بترك مكان الإله شاغرا كما أراده بوذا أن يكون، فظلَّ الخلاف قائما.
وفي خلال هذه الفترة ظهر الإمبراطور آسوكا الذي دفع بالبوذية إلى خارج حدود الهند- كما سبق القول- وبدأت البوذية تبنى المعابد، وتضع فيها الآلهة، كما بدأت تقيم الجمعيات التي ترعى الحياة الاجتماعية، وتشرف على شؤون الدين، وبخاصة في الهند وسيلان.
وفي الفترة الثانية- أي من القرن الأول حتى القرن الخامس الميلادي- أخذت البوذية تنتشر تجاه الشرق إلى البنغال، وتجاه الجنوب الشرقي إلى كمبوديا وفيتنام، وتجاه الشمال الغربي إلى كشمير. وفي القرن الثالث اتخذت طريقها تجاه الشرق إلى الصين وأواسط آسيا، وكان دخولها إلى الصين بطريق البحر أيضا، ومن الصين اتجهت إلى الشمال الشرقي، فدخلت كوريا، وكان لنشاط الحجاج الصينيين الذين زاروا الهند وسيلان وجاوه بين سنة (٣٩٩) وسنة (٤١٤) م أثر كبير في نشر البوذية في هذه البقاع، وكانت البوذية في هذه البقاع تتعاون تعاونا كاملا مع النظام الملكي الذي كان مسيطرا خلال هذه القرون على هذه الأقطار، وبواسطة هذا الارتباط بين الدين والسياسة انتشرت البوذية وكثر تابعوها، وشهدت هذه المدة تقدما واضحا في الثقافة البوذية التي أخذت تقيم المعاهد، وتنشر تراثها على أتباعها.
وفي المدة التالية - أي من القرن السادس إلى العاشر الميلادي- استمرت البوذية في التقدم والانتشار، وبخاصة من كوريا والصين إلى اليابان، ومن الهند إلى نيبال، ثم إلى التبت، وزادت مواكب الحجاج في هذه الفترة، وكثر نشاطهم وتنقلهم إلى البلاد التي دخلتها البوذية ولم يكن دائما وطيدا وكان انتشار البوذية أو تقلصها يتوقف على قوة الارتباط وضعفه، وتعدُّ هذه الفترة من أزهى فترات البوذية من الناحية الثقافية، فقد اتضح تأثير البوذية على الآداب والفنون في جميع البلدان التي دخلتها.
وفي المدة التالية - أي: من القرن الحادي عشر إلى الخامس عشر- ضعفت البوذية، واختفى كثير من آثارها، وذلك لعودة النشاط الهندوسي في الهند، ولظهور الإسلام في الهند، وفي سواها من الأقطار التي كانت تتربع فيها البوذية، ولكن البوذية اتجهت بنشاطها في هذه الفترة - فارَّة من الإسلام - تجاه لاوس ومنغوليا وبورما، وكان للنشاط الثقافي البوذي عظيم الأثر خلال هذه الفترة في بورما وكمبوديا وسيلان واليابان.
أما الفترة الأخيرة- أي: من القرن السادس عشر إلى القرن العشر- فتعتبر فترة دقيقة في تاريخ البوذية، إذ وقفت البوذية وجها لوجه أمام تحدي للفكر الغربي الذي حمله الاستعمار إلى تلك البقاع، فقد أدخل الاستعمار الغربي إلى هذه البلاد اتجاهاته الفكرية وإصلاحاته التربوية وفلسفاته في مختلف الشؤون، ولم تجد البوذية بدًّا من أن تتعاون طوائفها المختلفة لتقف في وجه الزحف الفكري، وهكذا التقت الفرق البوذية، أو قربت بعضها من بعض؛ لتقوى على النضال في معركتها مع المسيحية الغربية والفلسفات الأوربية، وقد تبنت البوذية كثيرا من الاتجاهات الغربية، كما تشرَّبت المسيحية بعض الأفكار البوذية، وتُبودلت المطبوعات بين المشرفين على هاتين الفلسفتين وتطور التعليم في المعابد، فاقترب من كليات الغرب وجامعاته، وتمَّ تعاون في الخدمات الاجتماعية بين البوذيين والغربيين.
وفي نهاية هذه الفترة اصطدمت البوذية بالشيوعية، وأصبح الحكم في كثير من الأقطار التي تنتشر بها البوذية في أيدي حكومات شيوعية.
المصدر: أديان الهند الكبرى لأحمد شلبي – ص ١٨٣