[المطلب الأول: الاضطهادات:]
إن مما لاشك فيه أن الدعوات خاصة الدينية والإصلاحية تنمو وتزدهر في السلام والأمن، وتنكمش وتتقوقع في الخوف والاضطهاد، وقد يؤدي الاضطهاد المركز إلى القضاء عليها، وخاصة إذا واكب نشأتها قبل أن تنغرس جذورها في الأرض وتثبت قدمها فيها.
وإن الدارس لتاريخ المسيح عليه السلام وأتباعه ودعوته يجد أن الاضطهاد واكب نشأتها، واستمر قروناً عدة يشتد حيناً، ويفتر حيناً آخر.
فقد كان المسيح عليه السلام مطارداً من اليهود، بل سعوا جادين إلى قتله، إلا أن الله عزَّ وجلَّ أنجاه منهم ورفعه إليه، ثم إن النصارى حسب كلامهم وقع عليهم اضطهاد شديد من بعده، أولاً من قبل اليهود، فقد قُتل أحد كبار النصارى ويسمى (إستفانوس) رجماً، وقُطع بعده رأس (يعقوب) مما جعل بقية الأتباع يتفرقون في البلدان، وينتشرون في أرض الله خوفاً من اضطهاد بني جنسهم اليهود لهم، ثم وقعت على من بقي منهم في فلسطين نكبتان مدمرتان:
أولاهما عام (٧٠) م، وهي: فتك الوالي الروماني (تيطس) باليهود وتدميره لبيت المقدس بسبب عصيانهم وتمردهم.
والأخرى وهي أكبر من أختها: عام (١٣٥) م, في عهد الإمبراطور (هادريان) الذي قضى على اليهود في فلسطين، ولم يبق بعده فيها إلا أقلية نصرانية واهنة مبعثرة.
ثم استمر اضطهاد أباطرة الرومان للنصارى قرنين آخرين، ذاق خلالهما النصارى ألواناً شتى من الذل والاضطهاد، حتى أصبح اتهام أي رجل بالنصرانية في بعض الأحيان مبرراً قويًّا لإلقائه للوحوش المفترسة والحكم عليه بالموت، ولم يتوقف هذا الاضطهاد إلا بتولي قسطنطين الإمبراطورية الرومانية، وإصداره مرسوم ميلان سنة (٣١٣) م، والقاضي بإعطاء النصارى الحرية الدينية وحرية الأديان عموماً.
فكان هذا الاضطهاد من العوامل المهمة في تحريف دعوة المسيح عليه السلام؛ لأن تثبيت العقيدة والدعوة إليها والعمل بها، يحتاج إلى وضع آمن، بل يحتاج إلى قوة داعمة ومناصرة لترسخ العقيدة في النفوس، ويتمكن الدعاة من نشرها بين الناس، وإلا فإن عقائد الناس وعباداتهم القديمة تطغى على الدعوة الجديدة، وقد تصبغها بصبغتها، وكذلك أعداء الأديان من أصحاب الأهواء والنفعيين فإنهم يجدون أرضية مناسبة لبث آرائهم وأهوائهم في الأديان، كما أن الجهل بالدين الصحيح في كثير من الأحيان مع النية الصالحة في العمل قد تدفع الإنسان إلى استحسان أمور وادعاء أمور أنها من الدين وهي ليست منه.
فهذه الأمور وغيرها تطفو على السطح وتظهر في حالة الاضطهاد وعدم الأمن، وإذا نظرنا إلى تاريخ النصرانية نجد أنه في فترة الاضطهاد شاع بينهم ما يسمونه بـ (الهرطقة) وهي التعاليم المخالفة لما عليه النصارى، كما كثرت الكتب والرسائل المنسوبة إلى دعاة النصارى الأوائل.
واستمر وجود تلك البدع والكتب إلى أن جاء قسطنطين وسعى إلى توحيد النصارى بدعوته إلى مجمع نيقية سنة (٣٢٥) م، إلا أنه وحدَّهم على إحدى تلك البدع، وهي بدعة بولس، فمما لا شك فيه أن ذلك كله كان عاملاً من العوامل التي تسببت في انحراف النصرانية عن الدين الحق الذي جاء به المسيح عيسى عليه السلام.