[الفرع الرابع: المرقيونية:]
أصحاب مرقيون: أثبتوا أصلين قديمين متضادين: أحدهما النور، والثاني الظلمة، وأثبتوا أصلا ثالثا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع.
وقالوا: إن الجامع دون النور في المرتبة وفوق الظلمة، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم.
ومنهم من يقول: الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها، فامتزجت به؛ لتطيب به، وتلتذ بملاذه، فبعث النور إلى العالم الممتزج روحا مسيحية، وهو روح الله وابنه تحننا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين، فمن اتبعه فلم يلامس النساء، ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا، ومن خالفه خسر وهلك.
قالوا: وإنما أثبتنا المعدل؛ لأن النور الذي هو الله تعالى لا يجوز عليه مخالطة الشياطين، وأيضا فإن الضدين يتنافران طبعا، ويتمانعان ذاتا ونفسا، فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما؟ فلا بد من معدل يكون بمنزلة دون النور، وفوق الظلام، فيقع الامتزاج منه.
وهذا على خلاف ما قالته المانوية، وإن كان ديصان أقدم، وإنما أخذ ماني منه مذهبه، وخالفه في المعدل، كالحاكم على الخصمين الجامع بين المتضادين لا يجوز أن يكون طبعه وجوهره من أحد الضدين، وهو الله عز وجل الذي لا ضد له ولا ند.
وحكى محمد بن شبيب عن الديصانية أنهم زعموا أن المعدل هو الإنسان الحساس الدراك، إذ هو ليس بنور محض ولا ظلام محض.
وحكي عنهم أنهم يرون المناكحة وكل ما فيه منفعة لبدنه وروحه حراما، ويحترزون عن ذبح الحيوان؛ لما فيه من الألم.
وحكي عن قوم من الثنوية أن النور والظلمة لم يزالا حيين، إلا أن النور حساس عالم، والظلام جاهل أعمى.
والنور يتحرَّك حركة مستوية مستقيمة، والظلام يتحرك حركة عجرفية خرقاء معوجة، فبينا هما كذلك إذ هجم بعض هامات الظلام على حاشية من حواشي النور، فابتلع النور منه قطعة على الجهل لا على القصد والعلم، وذلك كالطفل الذي لا يفصل بين الجمرة والتمرة، وكان ذلك سبب المزاج.
ثم إن النور الأعظم دبر في الخلاص، فبنى هذا العالم ليستخلص ما امتزج به من النور، ولم يمكنه استخلاصه إلا بهذا التدبير.
المصدر: الملل والنحل للشهرستاني – ١/ ٢٩٨