[تمهيد:]
إن الحديث عن العصور المتقدمة من هذه الفترة يلفه الغموض الشديد، ويكاد يكون الجهل بتلك الفترة جهلاً مطبقاً، وهي فترة من أكثر فترات التاريخ النصراني غموضاً وأشدها صعوبة وخطورة؛ إذ أفرزت هذه الفترة- وخاصة اللاحقة مباشرة لعصر التلاميذ- بروز الأناجيل الكثيرة، التي ظهرت في وقت متقارب من تلك الفترة، وهي متضاربة تضارباً شديداً.
كذلك برزت للوجود الأقوال المنحرفة الكثيرة عن المسيح وديانته، وهي أيضاً أقوال متضاربة متباينة.
يقول الكاتب النصراني حبيب سعيد متحدثاً عن تلك الفترة: (ومع أنه من اليسير جمع نتف من هنا وهناك عن هذه الفترة- نهاية عصر الحواريين - إلا أن الأربعين سنة من (٧٠) إلى (١١٠) م - تبقى أكثر فترات التاريخ المسيحي غموضاً وإبهاماً، وهو أمر يؤسف له؛ لأن هذه الفترة حفلت بكثير من معالم التغيير في الكنيسة نفسها، ولأن فيها برز كثيرون من دعاة المسيحية المجهولين بعد (بولس)، وظهر كثير من الأفكار التي حملها- بلا شك- المتنصرون الوثنيون من مصادر غير مسيحية، وخاصة حول العقائد والممارسات المسيحية، مثل الأسرار، والأصوام وأشكال العبادة، ودستور الكنيسة نفسه خضع لبعض التعديلات).
ويميز هذه الفترة المتقدمة من تاريخ النصارى حادثة مهمة جدًّا لعلها من أهم الحوادث التي وقعت على النصارى بعد رفع المسيح عليه السلام ألا وهي حادثة تدمير بيت المقدس من قبل القائد الروماني تيطس سنة (٧٠) م, في عهد الإمبراطور (لوسباسيانوس) حيث قضى هذا القائد على اليهود في فلسطين، وخاصة في القدس قضاء شبه تام بسبب ثورتهم ضد الرومان.
ولاشك أن عملية القتل والإبادة هذه قد طالت أكبر عدد من النصارى في ذلك التاريخ؛ لأنه لم يكن هناك فرق بين اليهودي والمتنصر إبان تلك الفترة، كما أن البلاء والقتل والإبادة كان شبه عام لجميع المناطق التي يتواجد فيها اليهود في فلسطين خاصة، والمناطق المجاورة لها.
ومن هنا فإن الحديث عن تلك الفترة فيه عسر واضح؛ إذ إنها حلقة مجهولة في تاريخ النصرانية، حتى إن نهاية أتباع المسيح عليه السلام- وكذلك بولس- تعتبر مجهولة بسبب ذلك البلاء الطويل الذي حلَّ باليهود متتابعاً متلاحقاً من قبل الرومان، منذ رفع المسيح عليه السلام إلى تدمير تيطس لبيت المقدس سنة (٧٠) م، ثم استمرَّ البلاء على من بقي منهم إلى التدمير الثاني في عهد الإمبراطور (أدريان) حيث تجمَّع مجموعة من اليهود وأمَّروا عليهم رجلاً يسمَّى (بركوكبا) وزعموا أنه المسيح المنتظر فخرج بهم على الرومان، فما كان من الإمبراطور الروماني (أدريان) حوالي عام (١٣٠) م, إلَّا أن أرسل حملة كبيرة، وأمرها بتدمير جميع المحلات التي يمرون عليها، محلًّا، محلًّا، واستمرَّ في ذلك سنتين حتى دمَّر بلاد اليهود، وقضى عليهم، وأعاد تدمير بيت المقدس، وبنى محله هيكلاً للمشتري، معبود الرومان في ذلك الوقت، وحرَّم على اليهود الدخول إلى بيت المقدس إلا يوماً واحداً في السنة بعد دفع غرامة مالية كبيرة.
فلا شكَّ أن أحداثاً جساماً كهذه كانت سبباً من الأسباب المباشرة للانقطاع التاريخي البيَّن في تاريخ النصارى الذين كانوا في ذلك الوقت لا يتميزون عن اليهود بشيء خاصة لدى من هو خارج إطارهم مثل الرومان واليونان الوثنيين.
كما أن الثقل الديني والالتزام بمبادئ المسيح عليه السلام كان متمركزاً في بيت المقدس، وكان سبق أن حدث انقسام بين دعاة النصارى في مسألة شريعة موسى عليه السلام، ووجوب التزامها، وإلزام المتنصرين من الوثنيين بها، وكان المحافظون على الشريعة والموجبون للالتزام بها من المتبعين للمسيح من اليهود هم القوة الغالبة في ذلك الوقت.
إلا أن تدمير بيت المقدس وقتل اليهود وجَّه لهذه الفئة بالذات ضربة قاصمة، وأفسح المجال لبولس وأتباعه المنادين بإلغاء العمل بالشريعة الموسوية، وفصلها عن ديانة المسيح عليه السلام. يقول حبيب سعيد: (أما خراب أورشليم في الشرق إثر التمرد اليهودي سنة (٧٠) م, فكان له أثر عميق في المسيحية، وذلك لأنه قضى على الجماعات الفلسطينية، وتضخم أعداد متنصري الوثنية، من العوامل التي جعلت كفاح (بولس) للتخلص من اليهودية الناموسية الضيقهة، غير ذي موضوع، وغدت أنطاكيه ورومية وبعدها أفسس أهم المراكز في تطور التاريخ المسيحي).
ظهور المذاهب والأقوال المختلفة في المسيح وديانته:
والناظر في تاريخ تلك الفترة يجد أنها أفرزت إفرازات خطيرة جدًّا في الديانة النصرانية حيث ظهرت المذاهب والأقوال المختلفة والمتباينة في المسيح وديانته، نذكر منها: