٣ ـ صهيونية أثرياء اليهود المندمجين في مجتمعاتهم الغربية (النصف الثاني من القرن التاسع عشر (:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تَعُد الحروب ضد دول آسيا وأفريقيا، بعد التطورات الصناعية المذهلة في أوربا، أمراً يبهظ خزائن الدول الاستعمارية، بل إن العائد أصبح يفوق التكاليف (وكانت إحدى مقولات أعداء المشروع الاستعماري أن تكاليف الإمبراطورية تفوق عائدها.) ومما تجدر ملاحظته كذلك أن الضغوط السكانية والأزمة الاقتصادية داخل المجتمعات الغربية جعلتها تبحث عن حل لمشاكلها خارج أوربا. ولكل هذا طرحت الإمبريالية نفسها باعتبارها المخرج من المأزق التاريخي.
ولكن المشروع الإمبريالي لم يكن يتم في ظل نظريات التجارة الحرة، إذ سيطر فكر احتكاري جديد يُسمَّى «نيو ـ مركنتالي neo-mercantile» ( أي «المركنتالي الجديد») بحيث تم تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ واحتكارات، كل منطقة منها مقصورة على الدولة التي استعمرتها (ومنها المؤتمرات الدولية المختلفة في هذه الفترة لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ). ومع منتصف القرن التاسع عشر كانت إنجلترا ورشة العالم بلا منازع، فإنتاجها الصناعي كان قد وصل إلى مستوى لم تعرفه البشرية من قبل، وإمبراطوريتها كانت مترامية الأطراف تحميها قوة عسكرية ضخمة، وأسطول يُسيطر على كل بحار العالم. وقد اتخذت السياسة البريطانية شكلاً إمبرياليًّا أكثر حدة، ولا سيما بعد تحطيم مطامع روسيا في حرب القرم، وبعد أن تحوَّل مشروعها الاستعماري إلى أواسط آسيا وغيرها من المناطق البعيدة عن أفريقيا والشرق الأوسط اللذين تزايد الاهتمام الإمبريالي البريطاني بهما. فاشترت بريطانيا أسهم شركة قناة السويس عام (١٨٧٦) م، واستولت على قبرص عام (١٨٧٨) م، واحتلت مصر (الطريق إلى الهند) عام (١٨٨٢) م. ونتيجة كل هذا أصبح مصير فلسطين جزءاً من المخطط الاستعماري البريطاني، الأمر الذي حدا بكتشنر أن يطالب بتأمين ضم فلسطين للإمبراطورية. ومع هذا كانت بريطانيا لا تزال ملتزمة بضمان ممتلكات الدولة العثمانية (من النيل إلى الفرات) التي (وعد الرب بها إبراهيم) ومن ثم أصبحت منطقة نفوذ بريطانية. ولكن في عام (١٨٨٥) م, قرَّرت حكومة المحافظين أن من الخير الموافقة على اقتراح القيصر بتقسيم الإمبراطورية (العثمانية).
ومع هزيمة فرنسا على يد ألمانيا عام (١٨٧١) م, نشط المشروع الإمبريالي الألماني، وبالتالي العلاقة مع الدولة العثمانية، فزاد حجم القروض الألمانية لها، وزار القيصر وليام الثاني القسطنطينية عام (١٨٩٨) م, وزار بعدها فلسطين، ولذا ظل المشروع الصهيوني متأرجحاً بين أعظم قوتين إمبرياليتين في ذلك الحين: البريطانية والألمانية.
كانت الصيغة الصهيونية حتى هذه المرحلة مجرد فكرة غربية تبحث عن المادة البشرية اليهودية المُستهدَفة التي ستُوظَّف. ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، تدفَّق المهاجرون اليهود من شرق أوربا إلى غربها، الأمر الذي هدَّد أمن هذه الدول، كما هدَّد مكانة أعضاء الجماعات اليهودية فيها، وقد أدَّى هذا إلى تشابك مصير يهود غرب أوربا ومصير يهود اليديشية. وحلاًّ لهذه المشكلة، اكتشف يهود الغرب الحل الصهيوني دون أية ديباجات قومية أو سياسية (ومن هنا رفض فكرة الدولة اليهودية، والابتعاد عن فلسطين كمكان للتوطين، وعدم الاهتمام بالدولة الراعية؛ إذ لا حاجة لها) وظهرت الصهيونية التوطينية بين أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا، وخصوصاً بين الأثرياء منهم المندمجين في مجتمعاتهم. وعلى هذا، فهو يعتبر أول اتجاه صهيوني يظهر بين اليهود، ومع هذا فهو يشبه صهيونية غير اليهود في أنه ينظر لليهود من الخارج