ظهر (هرتزل) بين صفوف يهود الغرب المندمجين التوطينيين، فاكتشف حاجة الغرب ويهود الغرب للتخلص وبسرعة من يهود شرق أوربا. ولكنه اكتشف الحقيقة البدهية الغائبة عن الجميع: حتمية التحرك داخل إطار الإمبريالية الغربية التي يمكنها وحدها أن تنقل اليهود خارج أوربا، وأن توظفهم لصالحها، نظير أن تزودهم بالدعم والحماية. وقد اكتشف (هرتزل) أيضاً فكرة القومية العضوية والشعب العضوي (فولك) التي تستطيع أوربا العلمانية الإمبريالية أن تدرك اليهود من خلالها. وقد نجح (هرتزل) في التوصُّل إلى خطاب مراوغ وهو ما جعل وضع نصوص العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم ممكناً، وهو عقد يُرضي يهود الشرق، ولا يُفزع يهود الغرب، ويجعل بإمكان الإمبريالية أن تضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. كما أنه فتح الباب أمام عملية تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية من خلال الديباجات اليهودية المختلفة. ويتميز هرتزل عن كلٍّ من شافتسبري وأوليفانت في أنه هو نفسه يهودي ينظر إلى المادة البشرية المُستهدَفة من الداخل. ولكنه مع هذا يهودي غير يهودي، ولذا فهو ينظر إلى هذه المادة من الخارج، ويراها باعتبارها مشكلة تبغي حلاًّ لا قيمة إنسانية تبغي التحقق. وبسبب ازدواجيته هذه، نجح (هرتزل) في أن يكون جسراً بين التوطينيين والاستيطانيين وبين اليهود والغرب، ولذا يمكن القول بأن الصهيونية تحوَّلت من فكرة إلى مشروع استيطاني استعماري على يد (هرتزل) في مؤتمر- بال- الذي وُلدت فيه الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة. وقد فزع أثرياء الغرب اليهود من دعوة (هرتزل) في بادئ الأمر، كما رفضها معظم الجماعات والمنظمات اليهودية في العالم.
٦ ـ تبلور الفكرة الصهيونية بين اليهود:
أ- حتمية الحل الإمبريالي: أدرك قادة يهود شرق أوربا حتمية الحل الإمبريالي من خلال (هرتزل).
ب- استقرار الصيغة الصهيونية الشاملة: تم قبول الدولة اليهودية الوظيفية باعتبارها الهدف الأساسي للحركة الصهيونية والإطار الذي يتم توظيف اليهود من خلاله. وأدَّى تقسيم الدولة العثمانية إلى حسم الأمور تماماً لصالح دعاة الاستيطان في فلسطين.
جـ - تهويد الصيغة الصهيونية: أحس قادة يهود شرق أوربا أن الصيغة الصهيونية الأساسية، وصيغة (هرتزل) الاستعمارية، لا يمكن أن تُجنِّد يهود اليديشية، ولذا فقد أثاروا قضية المعنى والوعي اليهودي وأضافوا ديباجات إثنية دينية وعلمانية أدَّت إلى تهويد الصيغة الصهيونية، وجعلت الشعب اليهودي مرة أخرى مركزاً للحلول، وجماعةً لها قيمة في حد ذاتها، الأمر الذي جعل بإمكان يهود شرق أوربا استبطان الصيغة الصهيونية الأساسية. ويُلاحَظ أن الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية لا هي بالتوطينية ولا هي بالاستيطانية؛ لأنها تتوجه لمستوى الهوية والوعي الذي يتجاوز ثنائية الاستيطان والتوطين، وإن كان لها ثنائيتها الخاصة (ديني/علماني)، وهي صهيونية تنظر إلى اليهود من الداخل.
د - الديباجات والتيارات السياسية: أدخل بعض الصهاينة العلمانيين ديباجات ليبرالية (الصهيونية العامة) أو اشتراكية (صهيونية عمالية) أو فاشية (الصهيونية التصحيحية) لتحديد شكل الدولة المزمع إقامتها، أي: أنهم حددوا شكل الاستيطان، وبذا تكون الفكرة الصهيونية قد اكتملت وتحدَّدت ملامحها، وصيغت كل الديباجات اللازمة لتسويقها أمام قطاعات وطبقات الجماعات اليهودية في شرق أوربا وغربها. وحتى ذلك التاريخ، كانت هناك صراعات كثيرة داخل الحركة الصهيونية:
أ - صراع بين التسلليين والدبلوماسيين.
ب - بين الدينيين والعلمانيين.
جـ - بين دعاة الاعتماد على ألمانيا في مواجهة دعاة الاعتماد على إنجلترا.
د - صراعات أيديولوجية بين دعاة الليبرالية ودعاة الاشتراكية.
هـ - صراع بين دعاة الصهيونية الإقليمية ودعاة الصهيونية التوطينية، أي: بين دعاة الاستيطان في أي مكان، ودعاة ما يُسمَّى «صهيونية صهيون» أي: الاستيطان في فلسطين وحدها.
٧ ـ تأسيس المنظمة الصهيونية: لم تكن بلورة الفكرة الصهيونية كافية، بل كان ضروريًّا أن يوجد إطار تنظيمي. وقد وضع (هرتزل) التصور الأساسي في كتابه (دولة اليهود)، ثم دعا للمؤتمر الصهيوني الأول (١٨٩٧) م, وتم تأسيس المنظمة الصهيونية.