ثم إن النصارى يخدعون الناس بما يزعمون من أن الأمر يدرك بالروح القدس. فإن هذا من الكلام الفارغ الذي لا معنى تحته؛ لأن معنى قولهم هذا أن قبول شخص من الأشخاص لهذه العقيدة إنما يتم بالروح القدس، فإذا لم يقبلها عقله ولا قلبه بناءً على خلوها من الدليل الشرعي والعقلي، قالوا له: إن الروح القدس لم يهبك الإيمان بها.
وهذا كلام فارغ؛ إذ من المعلوم أن جميع الوثنيين يؤمنون بترهاتهم وشركهم، وإيمانهم بها لم يقم على دليل شرعي ولا عقلي، وهذا وجه بطلان عقائدهم. إذاً فقبولهم لها تمَّ عن طريق التسليم لعلمائهم ودعاتهم بدون دليل أو وعي صحيح، فمن هنا يشبه النصارى الوثنيين من ناحية دعواهم بوجوب التسليم لمقولتهم بدون استناد على الشرع، أو استخدام للعقل في القضية.
أما الروح القدس فأقحم هنا إقحاماً، وإلا فما الذي يثبت أن الروح القدس هو الذي جعل أحدهم يؤمن بما يقال له، وليس شيطاناً من الشياطين؟ كيف يفرق الإنسان بين الاثنين؟ ليس هناك وسيلة للتفريق إلا بالدليل الشرعي والعقلي معاً. وقد استطاع النصارى بخبث شديد أن يعطلوهما ويلغوهما لما زعموا أن الأمر سر من الأسرار الكنسية التي يجب الإيمان به إيماناً مجرداً عن الفهم.
وهم إذا عجزوا عن فهم قضية وإقامة الدليل عليها زعموا أنها سر. ولازم ذلك: أن كبارهم وعلماءهم إما أن يعلموا ذلك السر أولا يعلمونه.
والحقيقة أنهم لا يعلمونه ولا يدرون له وجهاً، وأن علم الطالب المبتدئ منهم مثل علم أكبر القسس فيهم في مثل هذه القضايا، وإذا كان أمر لا يعرفه الكبير ولا الصغير فكيف يقبلونه؟! فلا بالشرع استناروا، ولا بالعقل استرشدوا، ودعوى أن الروح القدس يعلمهم، دعوى فارغة لا حقيقة لها، وإلا وجب أن يوحى إليهم بالسر، وهم يعلمون الناس، حتى تكون للناس قناعة، وهم أنفسهم يجدوا القناعة بما يقولون ويعتقدون.
ثم ما هذه الدعوى العريضة التي زعموا، وهي أن الروحانيين يعرفون أعماق الله، ماذا يعرفون عن أعماق الله؟
انظر كيف فتحوا الباب للافتراء على الله والكذب عليه جلَّ وعلا بما لا يستطيعون أن يأتوا منه بشيء، والله عز وجل يقول: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [البقرة:٢٥٥]. ويقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:١١٠] جلَّ وعلا عن افتراءات الجاهلين وتخرصات المتخرصين الظالمين.
المصدر: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص ٢٩٦