للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن من عجيب قدر الله جلَّ وعلا أن اليهود كانوا قبل مجيء المسيح عيسى عليه السلام ينتظرون مسيحاً، إلا أن آمالهم كانت متعلقة بشخصية محاربة يملكون بها الدنيا، ويعيدون لأنفسهم بها ما سلف من مجدهم، وما أندثرمن عزهم بسبب كفرهم، ويرفعون عن أنفسهم تسلط الرومان، الذين كانوا متسلطين عليهم في ذلك الزمان، فلما جاءهم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام نبيًّا كريماً ذا خصال حميدة وخلال كريمة، يدعو إلى التوبة والإيمان، والتقوى والإحسان، والعفو عن الظالم، والصبر على البلاء، نفروا منه نفوراً شديداً، وكرهوه وكرهو دعوته عليه الصلاة والسلام، فسعوا بناء على ذلك إلى قتله تخلصاً منه، حيث خيب آمالهم في تملك الدنيا، وإخراجهم من الذل الذي كانوا فيه، إلا أن الله سبحانه بكريم فضله وعظيم إنعامه أنقذ عبده ورسوله منهم وأنجاه ورفعه إليه، وحاق بالذين حاولوا قتله البلاء العظيم، فبعده بمدة وجيزة حلَّ باليهود عذاب أليم وبلاء شديد، تشتتوا بسببه في أنحاء الارض شذر مذر. ثم إن مما سيكون من عجيب القدر والتقدير أن الذي هو أمل اليهود في السيطرة على العالم، وزعيمهم الذي سيخُضِع العالم لهم سيأتي ولا قِبَل لأحد من الناس به، إلا أن الله عزَّ وجلَّ ادَّخر له عيسى ابن مريم عليه السلام الذي لم يقبله اليهود؛ لأنه لم يحقق لهم أطماعهم، ولم يستجب لأهوائهم، حيث سيكون على يديه الكريمتين هلاك ملك اليهود، ورجائهم في السيطرة والغلبة، فبعد ظهور المسيح الدجال واتباع اليهود وأهل الضلالة له، ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((فينزل - يعني عيسى عليه السلام- عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه. فيطلبه – أي: المسيح عيسى عليه السلام يطلب ويلحق المسيح الدجال- حتى يدركه بباب لدٍّ في فلسطين فيقتله .. )) (١). فيكون بذلك دمار اليهود النهائي، ودمار ملكهم على يدي المسيح عيسى بن مريم عليه السلام أولاً، ثم سائر المؤمنين من بعده، حيث ستكون مقتلة عظيمة يقتل بها جميع اليهود في فلسطين، والمسيح الدجال من أعظم البلايا والفتن على بني الإنسان، فإنه ما من نبي إلا حذَّر أمته منه، فقد روى عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: ((إني لأنذركموه، ما من نبي إلا وقد أنذره قومَه، لقد أنذره نوح قومَه، ولكن أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه، تعلموا أنه أعور، وإن الله تبارك وتعالى ليس بأعور)) (٢).وللدجال طاقات ومقدرة وقوة يفتن بها الناس، ويدعو الناس إلى عبادة نفسه، حيث سيزعم أنه رب وإله، فمن تابعه نال مما معه من لذة الدنيا ومتعها، ومن خالفه أصابه بلاء وعناء، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام في بيان سرعته في السير في الأرض وماأُعْطِيَ من قوة: ((قلنا: يارسول الله، وما إسراعه في الأرض؟، قال: (كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرُّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل)) (٣).

فلهذه الفتن التي تكون معه يتبعه المنافقون وأهل الأهواء والكفار.

أما النصارى ..... والله أعلم أن أكثرهم سيكون من أتباع مسيح الضلالة المسيح الدجال، وأنه سيكون فتنة عظيمة لهم. وذلك أن النصارى ينتظرون مسيحاً هو الرب والإله في زعمهم، فإذا جاء المسيح الدجال فإنه يدَّعي الربوبية ومعه جنة ونار- كما ورد في الحديث- فمن آمن به أدخله جنته، ومن لم يؤمن به أدخله ناره، وماجنته إلا نار الآخرة وما ناره إلا جنة الآخرة.

ثم إن النصارى يظنون أنه سيكون في هذه الدنيا حساب وإدانة للناس من قبل المسيح عيسى في زعمهم، فهذه كلها دلائل تشير إلى أنهم سيفتنون به إلا من عصمه الله منهم، واستبان له حقيقة ذلك الدجال بما جعل الله في خلقته من القبح والنقص، وما سيكون لاشك في دعوته وديانته من الفساد والانحراف والكفر. ولكن أنَّى للنصارى أن يتبينوا الفساد في الديانة، وهم على ديانة غاية في الانحراف، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – بتصرف - ص ٣٠٤


(١) رواه مسلم (٢٩٣٧)
(٢) رواه البخاري (٣٠٥٧) , ومسلم (١٦٩)
(٣) رواه مسلم (٢٩٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>