وحقيقة قولهم في الفداء هو: أنهم اخترعوا هذه الفرية، وادَّعوها بدون دليل من شرع أو عقل حتى يبرروا قضية الصلب التي اعتقدوها وآمنوا بها، ويرفعوا عن المسيح تلك السبة الشنيعة التي تلحقه بالصلب وهي اللعن، فادَّعوا أن الصلب هو الشرف الحقيقي، وهو الهدف الأسمى من رسالة المسيح، وأنه لولا الصلب ما جاء المسيح، فأخذوا يدندنون حول هذا الأمر، ويبحثون له عن الأوجه التي تجعله في حيز المقبول والمعقول.
إلا أن كلامهم في الحقيقة يزيد الأمر تعقيداً وإرباكا للقارئ والسامع، وإليك مقتطفات من كلام (ج. ر. و. ستوت) في كتابه (المسيحية الأصيلة) في الموضوع حيث افتتح الكلام عن معنى الصليب بقوله: (ولكن لا أجسر أن أتناول الموضوع (يعني معنى الصلب) قبل أن أعترف بصراحة بأن الكثير منه سوف يبقى سرًّا خفيًّا؛ ذلكم لأن الصليب هو المحور الذي تدور حوله أحداث التاريخ! وياللعجب كيف أن عقولنا الضعيفة لا تدركه تماماً، ولابد أن يأتي اليوم الذي فيه ينقشع الحجاب، وتحل كل الألغاز، ونرى المسيح كما هو ... ).
ثم يقول في آخر الكلام بعد فلسفة مطولة استغرفت عشر صفحات:(ومن المدهش أن هذه القصة الخاصة بيسوع ابن الله الذي حمل خطايانا ليست محبوبة في عصرنا الحاضر، ويقال عن حمله خطايانا ورفعه قصاصها عنا: إنه عمل غير عادل وغير أدبي وغير لائق ويمكن تحويله إلى سخرية وهزء ... ثم قال:
وفوق الكل يجب أن لا ننسى (أن الكل من الله) نتيجة رحمته ونعمته المتفاضلة، فلم يفرض على المسيح قصاصاً لم يكن هو نفسه مستعدًّا له، فإن الله (كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه) فكيف يمكن أن يكون الله في المسيح بينما جعل المسيح خطية لأجلنا؟ هذا ما لا أستطيع أن أجيب عنه. ولكن الرسول عينه يضع هاتين الحقيقتين جنبا إلى جنب، وأنا أقبل الفكرة تماماً، كما قبلت أن يسوع الناصري هو إنسان وإله في شخص واحد. وان كانت تبدو ظاهريا على شيء من التناقض، لكني أراه في عمله كما أراه في شخصه، وإن كنا لا نستطيع أن نحل هذا التناقض، أو نفك رموز هذا السر، فينبغي أن نقبل الحق كما أعلنه المسيح وتلاميذه، بأنه احتمل خطايانا، بمعنى أنه احتمل قصاص الخطية عنا كما تعلمنا الكتب).
وإننا لنعجب غاية العجب من هذا الاعتراف بعدم معقولية هذه العقيدة ثم الإصرار عليها، فهذا غاية الضلال والانحراف، وكان الأولى بهم إذ لم يعقلوا هذه المسائل أن يبحثوا في مصادرها حتى يظهر لهم الحق، فان تلك المصادر أساس الانحراف والضلال الذي يوجد لدى النصارى، سواء في ذلك الأناجيل أو الرسائل الملحقة بها، ولكن يزول عجبنا إذا علمنا أن ما عليه النصارى من انحراف وضلال إنما هو صيغة محسنة من الوثنيات السابقة، فرأى النصارى أنها شيء جميل بالنسبة لما كانوا عليه من الوثنيات، وما عرفوا الإسلام وما فيه من الحق والجمال والانسجام والوضوح الذي يبعث في النفس الطمأنينة والراحة، لما هي عليه من عقيدة، ولو أن النصارى وأهل الكتاب عموماً أصغوا إلى الدعوة الربانية الواردة في القرآن الكريم لزالت وانكشفت عنهم من الحيرة التي ولجوا فيها ولم يستطيعوا الخروج منها، ومن ذلك آيتان كريمتان فيهما شفاء لما هم فيه، أما الآية الأولى فقوله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:١٥ - ١٦].