للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان كما تنبأ، ففي عام (٦٢٣، ٦٢٤، ٦٢٥) م, استطاع هرقل أن يتخلص من لهوه ومجونه، وشنَّ ثلاث حملات ناجحة أخرجت الفرس من بلاد الشام، وفي عام (٦٢٧) م, واصل الرومان زحفهم حتى وصلوا إلى ضفاف دجلة داخل حدود الدولة الفارسية، واضطر الفرس لطلب الصلح مع الرومان، وأعادوا لهم الصليب المقدس الذي كان قد وقع بأيديهم، فمن ذا الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه النبوءة العظيمة؟ إنه النبي الذي تنبأ عنه موسى عليه السلام. يقول المؤرخ إدوار جِبن: (في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعاً؛ لأن السنين الاثنتي عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الإمبرطورية الرومانية). (١)

روى الترمذي عن ابن عباس في قول الله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:٢ - ٣]. قال: ((كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم، لأنهم وإياهم أهل الأوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل الكتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما أنهم سيغلبون. فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجلاً خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا جعلته إلى دون العشر.

قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر. قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:٢ - ٣].)) (٢).

وهكذا ظهر لكل ناظر منصف أن النبي الذي تنبَّأ عنه موسى لم تتحقق أوصافه في المسيح العظيم عليه الصلاة والسلام، وتحققت في أخيه محمد صلى الله عليهما وسلم تسليماً كثيراً.

ومما يؤكد ذلك أن هذه الصفات مجتمعة لم تتوافر في غيره من الأنبياء، فإن اليهود لا يقولون بمجيء هذا المسيح فيما سبق، بل ما زالوا ينتظرونه.

إذ لما بعث يحيى عليه السلام ظنَّه اليهود النبي الموعود، وأقبلوا عليه يسألونه (النبي أنت؟ فأجابهم: لا) (يوحنا ١/ ٢١)، أي: لست النبي الذي تنتظره اليهود.

ثم أراد تلاميذ المسيح أن تتحقق النبوءة في المسيح، فذات مرة لما رأوا معجزاته (قالوا: إن هذا بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم).

وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده ((يوحنا ٦/ ١٤ - ١٥)، فقد أراد تلاميذ المسيح تنصيبه ملكاً ليحققوا النبوءة الموجودة لديهم عن النبي المنتظر الذي يملك ويحقق النصر لشعبه، فلما علم المسيح عليه السلام أنه ليس النبي الموعود هرب من بين أيديهم.

ويرى النصارى أن ثمة إشكالاً في النص التوراتي (التثنية ١٨/ ١٧ - ٢٢) يمنع قول المسلمين، فقد جاء في مقدمة سياق النص أن الله لما كلم موسى قال: (يقيم لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك مثلي ... قد أحسنوا في ما تكلموا: أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك) (التثنية ١٨/ ١٥ - ١٨)، فقد وصفت النبي بأنه (من وسطك) أي: من بني إسرائيل، ولذا ينبغي حمل المقطع الثاني من النص على ما جاء في المقطع الأول، فالنبي (من وسطك) أو كما جاء في بعض التراجم (من بينك) أي: أنه إسرائيلي.

لكن التحقيق يرد هذه الزيادة التي يراها المحققون تحريفاً، بدليل أن موسى لم يذكرها، وهو يعيد خبر النبي على مسامع بني إسرائيل، فقال: (قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك) (التثنية ١٨/ ١٧ - ١٨)، ولو كانت من كلام الله لما صح أن يهملها.

كما أن هذه الزيادة لم ترد في اقتباس بطرس واستفانوس للنص، كما جاء في أعمال الرسل قال بطرس: (فإن موسى قال للآباء: إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به) (أعمال ٣/ ٢٢).

وقال استفانوس: (هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل: نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون) (أعمال ٧/ ٣٧)، فلم يذكرا تلك الزيادة، ولو كانت أصلية لذكرت في سائر المواضع.


(١) ((تاريخ سقوط وانحدار الإمبراطورية الرومانية))، إدوار جبن (٥/ ٧٤).
(٢) رواه الترمذي (٣١٩٣) وأحمد (١/ ٢٦٧) (٢٤٩٥) والحاكم (٢/ ٤٤٥) (٣٥٤٠) قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ومثله قال الذهبي ووافقهما الألباني

<<  <  ج: ص:  >  >>