للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم صمَّم بعد ذلك على ترك الحياة التي حَيِيَها مما حمل أتباعه النساك الخمسة أن يثنوه عن عزمه، فلم يفلحوا، واعتبروا ذلك منه ردة، واتهموه بأنه حادَ عن الطريق، وتركوه ومضوا إلى مرج الغزال في مدينة بنارس.

واستعاد سدذارتا - بوذا - نشاطه وقوته ومضى إلى شجرة، وجلس تحتها، ورأى رجلاً لديه حشائش؛ فسأله قبضةً منها فأعطاه، وجلس متربعاً ضامًّا يديه وقدميه، وعزم ألا يبارح مكانه، وألا يرسل ما ضمَّ حتى يتنزل عليه نور الحكمة والمعرفة، وآلى على نفسه أن يبقى ولو نخرت عظامه، وجف جلده، وتلف جسده.

وتقول الأساطير: إن نوازع نفسه أخذت تصارعه، ولكنه انتصر على الإغراء وهزمها في الصراع، وما كاد ينتهي الليل، ويغشى الأرضَ سنا الفجر حتى أشرقت معه في قلبه وعقله الحقيقةُ الساميةُ، والمعرفةُ الصحيحة، وأدرك ما كان يرجو من الماضي والحاضر والمستقبل كل لا يتجزأ، وعرف سرَّ الحياة والموت، والعلة والمعلول، ورحلة الروح في مختلف الأجسام: متى تصعد إلى النرفانا حيث العدم العام، وفناء النفس وهي السكينة والفناء.

ولكنه فناء ليس الفناء المعروف، وإنما هو وجود يفنى في وجود مثل فناء ألوان الطيف في الشمس، في البياض الناصع الذي لا لون له، كما يزعم بعض فلاسفة البوذيين العصريين.

ولا يتمُّ الوصول إلى النرفانا إلا بعد صفاء النفس والفضائل في عالم الحس والواقع.

ومرَّ به النهار ثم الليل، ولم يشعر بهما؛ لأنه كان غارقاً في سُبُحَاته، ثم صحا صحوةَ المنتصرِ والفرحُ يملأ قلبه؛ لأنه انتهى إلى ما كان يرجو، وتحقَّق له ما كان يأمل، وهبطت عليه الاستنارة فكان بوذا.

واستفاضت شهرته، وقصده الناس، ومضى إلى بنارس، وقصد مرج الغزال إلى النساك الخمسة الذين هزؤوا به، واتهموه، وتركوه فما كادوا يبصرونه حتى هزمتهم هيبتُه وراعهم منظره؛ فَهَبُّوا لاستقباله، وتسابقوا إلى تحيته، وجاءوا بماء لغسل قدميه، فألقى عليهم أول درس من دروسه، فإذا الفرح يملأ قلوبهم، ويفيض على وجوههم بشراً، ثم بعد ذلك دَوَّت شهرته آفاق الهند، واجتذبت شريعته الجديدة شباب الأسر العريقة، والتفت به الجموع، وكثر مريدوه.

وأصبح داعياً لما توصَّل إليه إلى أن توفي في الثمانين من عمره سنة (٤٨٨) قبل الميلاد، وأُحرق جسده بعد موته بثمانية أيام. هكذا تقول الأساطير عنه (١).

المصدر: رسائل في الأديان والفرق والمذاهب لمحمد الحمد - ص ٤٠


(١) انظر ((الديانات والعقائد)) (١/ ١١٦ - ١١٧)) , و ((ذيل الملل والنحل)) (٢/ ١٣ - ١٦))، و ((الموسوعة الميسرة للندوة العالمية للشباب الإسلامي)) (٢/ ٧٥٨)، و ((التصوف المنشأ والمصادر)) لإحسان إلهي ظهير (ص ٥٣ - ٥٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>