وكانت النتيجة أن الثائرين نظروا إلى رجال الدين على أنهم مخادعين متآمرين هم والحكام على استعباد الناس وإذلالهم – وهو صحيح – فتم وضع القوانين والتشريعات الجاهلية بدلاً عن كل الشرائع الإلهية التي تمثلها الكنيسة الظالمة والبابا المتغطرس، فجاءت الأحكام العلمانية خليطا مشوها من شتى الأفكار والحضارات الجاهلية وظنوا أنهم وجدوا الحل المناسب لحياتهم الاجتماعية، وأنهم وجدوا السعادة التي ينشدونها والأحكام العادلة التي يتمنونها في ظل العلمانية الوضعية التي تنقض اليوم ما أبرمته بالأمس.
وقصر بهم العزم أن يبحثوا عن مصدر العدل الحقيقي والأحكام المتناسقة التي يسبق العقل إلى تصديقها قبل الواقع، وقد قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:٨٢]، ولقد وجدوا في علمانيتهم اختلافا كثيرا وتناقضا فاحشا في الأحكام، ولكن طبع على قلوبهم وصار حالهم كما عبر عنه الشاعر:
لفح الهجير نعيم إن رضيت به ... وناعم الظل إن أنكرت رمضاء
وفيما يلي نشير إلى الحكم في الإسلام لكي يقارن العاقل بين حكم الجاهلية وقوانينها وبين عدل هذا النور لأنه كما قيل "وبضدها تتميز الأشياء" وليرى القارئ الكريم أكذوبة من زعم أن الإسلام يفرق بين الدين والسياسة في الحكم، سواء كان هؤلاء يتظاهرون بالإسلام أم لا.
الثانية: هل يوجد فرق في الإسلام بين الدين والسياسة
لا يمكن لأي شخص عرف الإسلام – مهما قلت معرفته به أن يقول أن الإسلام يفرق بين الدين والحكم، بحيث يكون الدين لله والحكم للشعب أو القانون أو مجلس التشريع أو الحزب أو غير ذلك من الإطلاقات العلمانية الباطلة، لأن الإسلام يعتبر جميع البشر عبيدا لخالقهم، ولا مزية لأحد على آخر إلا بالتقوى، ويحرم أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وأن من رضي بالتحاكم إلى غير الله فهو طاغوت خارج عن الفطرة محارب لله ظالم لنفسه، متعد لما ليس له، وسيحاسبه الله تعالى عن ذلك.
وفي الإسلام البيان التام الشامل لكل جوانب الحياة سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية .. الخ، بينها الله تعالى في قواعد شاملة وأحكاما جامعة وأمر الناس بفهمها واستخراج كل ما يصادفهم من أحكام وتشريع على ضوئها من كتاب الله تعالى أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالمشرع في الإسلام هو الله وحده، وما نطق به رسوله والمنفذ للأحكام الشرعية هم الحكام الذين تختارهم الأمة ويرضون بحكمهم لتنفيذ الشرع الشريف، وهؤلاء الحكام ليسوا طبقة فوق البشر، أو لهم صفات إلهية – كما كان يتصور الجاهلون قديما – وإنما هم منفذون فقط، وأن كل مسلم مطالب بأن يعرف الأحكام الشرعية وأمور العبادات والاقتصاد وغير ذلك من أمور الحياة، وبعض آخر يطلب الإسلام من كل أتباعه أن يكونوا صالحين لتنفيذ أحكام الله في كل قضية تعرض للشخص، ومعنى هذا أنه لا يوجد في الإسلام تلك الدعوى النصرانية التي بنى عليها اللادينيون فكرهم، وهي "أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" فهذه الإزدواجية لا مكان لها في الإسلام، وإنما الذي فيه هو تساوي الناس في التكليف أمام الله ومطالبتهم جميعا بتنفيذ أحكام الشريعة وطاعة ولاة أمورهم في غير معصية الله ورد ما يختلفون فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبهذا تصلح الحياة وتستقيم الأمور ويحصل التنافس في فعل الخير، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:٥٠].