نشأت هذه الفكرة في أوروبا كغيرها من الأفكار الأخرى الكثيرة في رد فعل عارم تجاه أوضاعهم التعيسة التي كانت تقسم الناس إلى فريقين فريق هم السادة والقادة وأصحاب الامتياز وفريق آخر هم العمال العبيد الذين يساقون كما تساق البهائم لا قيمة لهم ولا يجمع بين قلوبهم وقلوب الطبقة الأولى غير الأحقاد والكراهية والرغبة في التمرد بأي ثمن يكون للخلاص من قبضة رجال الدين ورجال الدولة على حد سواء بعد أن التقت مصالح رجال الدين ورجال الحكومة على استعباد الناس وتسخيرهم لخدمتهم وحين وصلت الأمور إلى هذا الحد كان اختراع المبررات للخروج على ذلك الوضع هو التفكير الجاد فاخترعت الدعوة إلى القومية ثم إلى الوطنية ثم إلى الأفكار الأخرى كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان .. إلى آخره.
وكان إلى جانب هؤلاء المتربصون بالكنيسة ورجالها وبالحكام الذين يظلمون الناس باسم المسيح كان إلى جانبهم اليهود الذين كانوا محل بغض الاضطهاد الديني النصراني حينما كانت النصرانية قوة متنمرة لكل المخالفين لها.
فكان الأمر يقتضي أن يقف اليهود إلى جانب أولئك بكل ما يستطيعون علها تظهر من وراء تلك الفتن فوائد لليهود وهم يعرفون كيف يستغلون الأوضاع لصالحهم بعد تأجيج الفتن.
ومن الجدير بالذكر أن دعوى الوطنية حين ظهرت في أوروبا ما كان لها وهي دعوى جاهلية أن تؤلف بين قلوب الأوروبيين برغم تلك الأوضاع فقامت الحروب الشرسة بينهم وسفكت دماء لا يعلم عددها إلا الله تعالى وكل تلك الحروب إنما كان يراد من ورائها السيطرة وبسط النفوذ وهي حروب كثيرة وقعت بين فرنسا والإنجليز والإيطاليون وغيرهم في مد وجزر استغرق وقتا طويلا وقفت أمامها القومية والوطنية ذليلتان.
لقد جاءت الوطنية على غرار خبث القومية ولم يكن تصدير أوروبا الفكرة الوطنية إلا وسيلة من وسائلهم الكثيرة لغزو العالم كله وخصوصا العالم الإسلامي وتشتيته وتمزيق وحدته ليسهل عليهم إذلال تلك الشعوب حينما تنقطع فيما بينهم روابط العقيدة وتحل محلها روابط الجاهلية من قومية ووطنية شعوبية ويصبحون فريسة الأفكار الخادعة ويتخلون عن مصدر عزهم وقوتهم في الإسلام وقد عرفوا أن إحلال الوطنية محل الجهاد الإسلامي بخصوصه هو أقرب الطرق إلى تشرذم المسلمين وبالتالي يكون جهاد المسلمين لأعدائهم إنما هو لأجل الوطن لا لشيء آخر. فيتحول الجهاد من كونه لأجل نشر الإسلام إلى حركات وثورات وطنية لا تفرق بين الدين وعدم الدين بل ولا تدعو إلى الدين الإسلامي ولا إلى نشر تعاليمه ولا يقاتلون أعداء الإسلام لأجل الإسلام بل لأجل أن يتركوا لهم بلادهم وأوطانهم لا غير ومن السهل على أعداء الإسلام أن يعدوا المسلمين ويمنوهم بتركهم أوطانهم إذ أن الطلب في هذا أسهل من طلب الإسلام أو الجزية عن يد وهم صاغرون أو القتال كما هو شعار الإسلام فإذا صارت المفاوضات سياسية محضة فالخطب هين والوعود والكذب والاحتيال أمر مشروع عند الكفار ضد الإسلام والمسلمين ولا يصعب عليهم إخلاف الوعود والاعتذارات بحرارة عندما يتلاعبون بالمواعيد وبين تلك المواعيد واللقاءات المتكررة والمجاملات يسري في عروق الوطنيين ما يسري من الغزو المنظم والانبهار بما عند أعداء الإسلام مما مكنهم الله به من العلم بظاهر الحياة الدنيا وزينتها فتقوم صداقات تنمو شيئا فشيئا بين الوطنيين ممن يزعمون الإسلام وبين أعداء الإسلام بعد أن أبعد الدين ومبادئه في الجهاد عن الساحة وحلت محله الشعارات الخادعة من القومية والوطنية والإنسانية والتقدمية و .. إلى آخره ومادام الوطنيون لا يغضبون لله تعالى ولا لدينهم فبإمكان أعداء دينهم أن يقولوا لهم لماذا تغضبون لأجل الاستقلال؟ سنجود به عليكم بل وستكونون أنتم خلفنا على شعوبكم وسيقبل الوطنيون بكل بساطة بخلاف ما لو كان التعصب للدين.
ولهذا فمن الواضح أن دعاة الوطنية وقد أشربوا حبها بدلا عن الدين وتقديسها بدلا عن تعاليم الإسلام من الواضح أن هؤلاء غنيمة أعدائهم حيث يرتمون في أحضانهم للاستعانة بهم والركون إليهم في كل شيء سيواجههم حتى ولو كان ذلك ضد أبناء وطنهم الذين يفطنون لما يبيته لهم الوطنيون عباد الكراسي والشهوات وكانت قيادة دعاة الوطنية لشعوبهم كقيادة فرعون الذي قال لأبناء وطنه " ما أريكم إلا ما أرى " قادوهم إلى جعل الوطن هو المقدس أولا وأخيرا وإلى التعلق بأذيال أهل الشرق الشيوعي أو الغرب النصراني وأماتوا شخصية شعوبهم الإسلامية التي تبعث فيهم النخوة والشهامة والاعتزاز بالإسلام ومعلوم من هذا الكلام أنني لا أقصد به ذم الذين جمعوا بين حب الوطن وحب دينهم وتواضعوا للناس. وإنما أقصد أولئك الذين باعوا أنفسهم وأوطانهم ودينهم بثمن بخس وفضلوا المبادئ والنظريات الكافرة وازدروا الدين الحق وسموه رجعية وتخلفا.