[ثالثا: موقف العلمانيين]
يبدي العلمانيون ترحيبا ظاهرا بالعولمة، ويرتقبونها بفارغ الصبر، ويبشرون بالخير العميم الذي سيهب علينا من العولمة، ليخرجنا من التخلف إلى الحداثة .. ولا يخفي بعضهم فرحته بأنها هي التي ستزيل من حياتنا بقايا " القرون الوسطى " التي ما تزال عالقة بنا ..
بعبارة أخرى تزيل لهم الإسلام!!
هكذا يفكرون .. وهكذا يحلمون ..
ويعجب الإنسان لهذا المسخ الشائه الذي يقرأ تاريخه بعيون غيره، ويزن نفسه بميزان غيره، ويتلاشى هو حتى يصير كأنه غيره!
لقد كانت القرون الوسطى في أوربا هي قرون الظلام .. وقُرِنَ هذا الظلام - بجهالة - بالدين، من حيث هو دين! فقيل إن أوربا كانت تعيش في الظلام لأنها كانت تعيش في ظل الدين، وحين نبذت الدين تقدمت وارتقت وخرجت من الظلام إلى النور ..
ونحن نعلم جيدا أن عصر التدين في أوربا كان عصر الظلام، وأن أوربا تقدمت حين نبذت دينها. ولكنا جديرون أن تكون لنا رؤيتنا الواضحة لهذا الأمر، بما نملك من المعايير التي لا تملكها أوربا، وبكوننا ونحن خارج الدائرة - أو خارج الأزمة - أقدر على الرؤية الشاملة التي قد لا يقدر عليها الموجودون في داخلها، المتأثرون بأفعالها وردود أفعالها، الواقعون تحت ضغوطها وانفعالاتها، التي قد تغشي النظرة وتفسد الرؤية.
إن أوربا لم تعرف في تجربتها - قط - دين الله المنزل! إنما عرفت دينا صنعته تصورات بشرية ضالة، أفسدت منه ما أفسدت، ثم أفسدت به ما أفسدت!
وعرفت كيانا كهنوتيا مبتدعا ما أنزل الله به من سلطان، طغى وتجبر حين واتته الفرصة، ففرض على الناس طغيانا روحيا، وطغيانا ماليا، وطغيانا عقليا، وطغيانا سياسيا، وطغيانا علميا، حَوّل الحياة إلى جحيم لا يطاق، ومع ذلك أطاقته أوربا ما يقرب من عشرة قرون، ولم تدرك ما فيه من الزيف، وما فيه من الإجحاف بكيان الإنسان إلا بعد أن احتكت بالإسلام والمسلمين
وعندئذ انقلبت أوربا مائة وثمانين درجة كاملة .. فألّهت الإنسان بدلا من الله، وانكبت على الحياة الدنيا بدلا من التوجه إلى الآخرة، وحكّمت العقل في الأمور كلها بدلا من مقولات الدين، أي المقولات التي كانت تقولها الكنيسة باسم الدين ..
وأوربا حرة تفعل بدينها ما تشاء!
ولكن الرؤية المستقيمة، غير المتأثرة بانفعالات المعركة .. الرؤية " العقلانية " الصحيحة .. والرؤية "العلمية" المتثبتة، كان ينبغي أن تدرس وتحلل وتنظر في الأسباب والنتائج، فتكشف حقائق الأمر، التي قد يغيبها الانفعال الثائر، أو رغبة الثأر والانتقام من طغيان الكنيسة.
ففي الفترة ذاتها التي عاشتها أوربا في ظلماتها، كان هناك نور ساطع مشرق متألق، منبثق من الدين .. ولكن من الدين الصحيح الذي لم تفسده التصورات الباطلة، والذي ليس له كهنوت ولا رجال دين يفرضون على الناس ما يفرضون، ويحرقونهم أحياء حين يرفضون!
ومن الحق أن نذكر - كما ذكرنا من قبل - أن أوربا كانت قد أوشكت أن تدخل في هذا الدين، لولا عنف الكنيسة في محاربته، ومحاربة تأثيراته في نفوس الأوربيين وأفكارهم.
ولكن الحصيلة النهائية على أي حال كانت نبذ الدين جملة وإقصاءه عن الهيمنة على واقع الحياة، أو - في أحسن الأحوال - تحجيمه حتى يصبح علاقة خاصة بين العبد والرب، مكانها القلب، ولا صلة لها بواقع الحياة السياسي أو الاقتصادي أو العلمي أو الأخلاقي أو الفكري أو الاجتماعي ... إلخ.
مرة أخرى نقول إن أوربا حرة تفعل بدينها ما تشاء!
أما العلمانيون الذين يحملون أسماء إسلامية فما الذي دهاهم حتى صاروا يتصايحون بما صاحت به أوربا من قبل، ويفرون من الدين، ويدعون إلى الفرار منه كما فرت أوربا من قبل، ودينهم غير ذلك الدين، وظروفهم غير تلك الظروف؟!