للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثانيا: المقصود بعصر التنوير]

المقصود بعصر التنوير هو ما نجم عن خضم العراك بين الدين النصراني ورجال الفكر حيث ظهرت مذاهب عديدة للإجهاز على سلطة الدين النصراني ورجاله فنشأ ما يسمى بعصر التنوير وهي الفترة التي أقصي فيها الدين النصراني وحل محله العقل في كل شيء وصار له الحكم على الدين وعلى سلوك الناس بداية من النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، الذي عرف فيما بعد ذلك بعصر التنوير أي سيادة العقل وحده دون منازع في رد فعل عارم لكبت الكنيسة له والإتيان بخرافات وخزعبلات لا يقرها العقل بحال.

ولشدة هربهم من ظلم الكنيسة فقد اعتبروا تقديم العقل على الدين هو بداية النور مع أنهم بعد فترة أداروا ظهورهم لهذا الإله – العقل عندهم – وتفلتوا منه كذلك ما سيأتي بيانه.

قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء:٨٢] خصوصا وأن الذين أقاموا هذا المذهب ودعوا إليه كانوا يريدون هذا الخلاف ويؤججون ناره لحاجات في أنفسهم.

وحين غزت حركة التنوير العالم الغربي اتجهت بقوة إلى الفكر والآداب في دعوة جادة إلى نبذ الدين وسائر القيم الدينية وكل السلوك القائم في استكبار وعتو شديد عن الدين – أي دين – حيث حل محله العقل الذي حكموه في كل شيء سواء كان أهلا لذلك أو ليس أهلا له فهو الحاكم في المحسوسات والمغيبات أيضا حيث عللوا لكل ظواهر هذا الكون وما يقع فيه بتعليلات أكثرها خرافية مستندين إلى تأييد العقل لهم بزعمهم.

وفي النهاية إنما يكون الحكم أولا وأخيرا للأهواء والمصالح المختلفة وأنى للفلسفة أن تفلح في بيان الحقائق الإلهية والعقائد الربانية أو سعادة البشر وهي لا تملك هذا الجانب وقد قيل "فاقد الشيء لا يعطيه" ولهذا فإن تدخل الفلاسفة في بيان الجوانب العقدية إنما هو تطفل عليها وتطاول قبيح لا يقدم للنفس غذاءها الذي تحيا به وتسير بموجبه راضية مطمئنة، وإنما يقدم للعقل نظريات وافتراضيات ليلهو بها إلى حين.

وما ذكرناه من أن خروج أهل أوربا بتلك الأفكار إنما كان بسبب الدين النصراني فإنما هو وصف لما وقع وليس بعذر منج لهم عند الله تعالى لعدم بحثهم عن الدين الصحيح الذي سيجدون فيه السعادة والعدل لو أنهم طلبوه بعد أن أقام الله الحجة على جميع البشر.

المصدر:المذاهب الفكرية المعاصرة لغالب عواجي ١/ ٦١٩

<<  <  ج: ص:  >  >>