لقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الإغريقية – التي تمثل العقلانية قسماً بارزاً منها – تسيطر على الفكر الأوروبي، حتى جاءت المسيحية الكنسية فغيرت مجرى ذلك الفكر في انعطافه حادة تكاد تكون مضادة لمجراه الأول الذي استغرق من تاريخ الفكر الأوروبي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي – كما تقدمه الكنيسة – وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ومحاولة تقديمه في ثوب (معقول)!. يقول الدكتور محمد البهي في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي)(١): "كان الدين أو النص طوال القرون الوسطى سائداً في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته، وفي فهمه للطبيعة. وكان يقصد بالدين (المسيحية) وكان يراد من المسيحية الكثلكة) وكانت الكثلكة تعبر عن (البابوية) والبابوية نظام كنسي ركز (السلطة العليا) باسم الله في يد البابا، وقصر حق تفسير (الكتاب المقدس) على البابا وأعضاء مجلسه من الطبقة الروحية الكبرى، وسوى في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وإفهام الكنيسة الكاثوليكية ".
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوربية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات التي لم تنشأ – كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة- من إهمال الفلسفة والعلوم الإغريقية والالتجاء إلى الفكر (الديني). فلم يكن (الفكر الديني) من حيث المبدأ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطى في أوروبا، إنما كان الخلل كامناً في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي، بعد تحريفها ما حرفت منه، وإضافتها ما أضافت إليه، ومزج ذلك كله بعضه إلى بعض وتقديمه باسم الوحي.
والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطى كان بسبب إهمالها، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها، لم تكن هي في ذاتها بريئة من الخلل ولا سليمة من العيوب، ولا كانت في صورتها التي قدمها فلاسفة الإغريق القدامى زاداً صالحاً لحياة إنسانية مستقيمة راشدة، على الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها .. وإنما ظل الفكر الأوروبي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلى جاهلية حتى عصره الحاضر. فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلى جاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطى، إلى جاهلية عصر الإحياء، إلى جاهلية عصر (التنوير) إلى جاهلية الفلسفة الوضعية .. إلى الجاهلية المعاصرة.
كانت العقلانية الإغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجماً مزيفاً أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى (قضايا) تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شيء مختلف عن الوجود ذاته، بحركته الموارة الدائمة، بمقدار ما يختلف (القانون) الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها، وبمقدار ما تختلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه .. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله، ويتمشى معه أو يخالفه!.
وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة (لقضية) الألوهية و (قضية) الكون المادي وما بينهما من علاقة. ويتشعب هذا الانحراف شعباً كثيرة في وقت واحد.
فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلاً عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهية.