وبالنسبة للعلم التجريبي فقد ثبت بما لا ريب فيه أن المسلمين هم الذين اخترعوه وسبقوا إليه وأفادوا واستفادت أوربا منه الأساس لحضارتها الحالية كلها ثم تنكرت له شأن التلميذ العاق – كما تقدم.
وقد عرفت أن العلم التجريبي كان باعثا للمسلمين على زيادة الإيمان بالله تعالى فما أن يكتشفوا شيئا إلا وطأطأوا رؤوسهم إجلالا لله وشكرا له وزادهم إيمانا وتسليما.
أما الحضارة الأوروبية الهاربة من الدين والإله فقد زادهم العلم التجريبي واكتشافاته بعدا وطغيانا وكفرا واعتقدوا أنهم أصبحوا في غنى عن كل شيء يتصل بالإله والدين وفسروا كل ما مكنهم الله من اكتشافات على أنه يؤيد كفرهم واستغناءهم عن الله تعالى.
ـ وأما الذين هداهم الله إلى الحق فهم طائفة أهل السنة والجماعة الذين تأتي أحكامهم دائما بهدوء وتعقل ومقارنة وهؤلاء لم يغلوا في تقديس العقل ولم يغلوا في احتقاره بل العقل عندهم من أكبر النعم الإلهية وعليه قيام المعرفة ويجب الاستفادة منه كما أمر الله بذلك في كتابه الكريم وفي سنة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.
لكنهم لا يختلفون أن العقل له دور في المعرفة والهداية محددا إذا تجاوزه انقلب إلى الحمق والجهل وإذا وقف عند حده كان دلالة على جودته وصفائه والأمثلة على هذا كثيرة جدا ومن أقربها ما وقع بين الفرق الإسلامية من اختلاف في الواجب على المسلم تجاه الإيمان بصفات الله تعالى فمنهم من تجاوز حدود العقل في طلب المعرفة فنفى أسماء الله تعالى وصفاته وعطلها عن معانيها ومدلولاتها وظن أنه وصل إلى علم عزيز وتنزيه لله عظيم ومنهم من أثبتها وأثبت مدلولاتها وأنها لا تختلف عن أسماء وصفات المخلوقين فوقع في حمئة التشبيه البغيض وظن أنه وصل إلى علم عزيز وكأن الجميع على باطل وجهل وحمق بسبب تجازوهم حد معرفة العقل وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى المعتقد الصحيح الذي يوفق بين النصوص فأثبتوا لله ما أثبته لنفسه ونفوا عنه ما نفاه عن نفسه دون تعطيل ولا تشبيه وقالوا معرفة الصفات فرع عن معرفة الذات فكما أننا لا نعرف ذاته فكذلك لا نكيف صفاته مع معرفتنا بمعانيها ولكن المجهول عنها هو تلك الكيفيات لسمع الله وبصره ونزوله ورحمته ... إلى آخر الصفات الإلهية، وهذا هو الحق الذي يجمع بين النصوص كلها والعقل أيضا يؤيد هذا الموقف ويرتاح إليه.
فلو سأل الله الشخص: لماذا أثبت لي السمع والبصر والكلام ... إلخ؟
وأجابه بأن أنت الذي أثبتها لكان جوابا حقا.
ولو قال له لماذا لم تثبتها كصفات المخلوقين؟ وقال له لم أجد نصا يفيد ذلك مع معرفتي بالفرق الهائل بين المخلوق والخالق لكان جوابا موفقا.
وكذلك لو قال الله له: لماذا لم تنف عني مدلولات تلك الصفات؟ فأجابه بنفس الجواب السابق لكان جوابا موفقا.
ومن هنا يتضح أن الإسلام لا يحتقر العقل ولا يرفعه فوق منزلته وهذا هو الحق والصواب بخلاف ما وقفه العقلانيون منه فإنه باطل وقاصر عن الحق وتعد عليه سواء الذين احترموه أو الذين احتقروه لأن هذا الموقف منهم لم يبن على هدى من الله تعالى وإنما بني على الأمزجة والهوى وهما من أكبر مصادر الجهل.
ومن هنا تزول الغرابة حينما تجد ذلك الاختلاف والتباين في الآراء والأهواء عند دعاة العقلانية فإن الله عز وجل لم يجعل الناس كلهم على مستوى واحد في العقل فكانت النتيجة ذلك الاختلاف المرير بينهم سواء أكان فيما يتعلق بالعقل أو العلم أو بالإنسان نفسه واحتار المفكرون وأصحاب الأقلام كلهم في أمر الحقائق المشاهدة في خلق هذا الكون لأن الحيرة لابد وأن تقع لأنه لا يملك التعليل الصحيح لهذا الوجود كله إلا الذي خلقه وما عدا ذلك فهي تخرصات وتخمينات قابلة للتخبط.
وأن يسلم لله تعالى أمره ويسره بحسب ما جاء في كلام رب العالمين ويؤمن به إيمانا جازما دون تردد أو شك ويتحرر من كلام أصحاب الفلسفة والمنطق والكلام وتعليلاتهم السخيفة. ومن جميع الآراء التي قامت على الهوى وتصنع العلم ورد في الحديث القدسي الشريف: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) (١)
المصدر:الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة - الندوة العالمية للشباب الإسلامي
(١) ((مجموع الفتاوى)) (٣٥/ ١٦٥).