للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والخلاصة أن العقل من أكبر النعم التي ميز الله بها الإنسان وأننا لا نعرف حقيقته ولكن بإمكاننا الاستفادة منه والاهتداء به حينما نعرف حدود قدرته وحينما نربطه بالاستفادة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

هل وُفِقَت العقلانية إلى الحق بالنسبة لموقفهم من العقل؟

وإذا كانت العقلانية فكرة قامت على دعوى احترام العقل والاستفادة منه فهل وفقت فعلا إلى احترامه الاحترام الذي يليق به؟ وهل استفادت منه الفائدة الصحيحة والجواب عن هذا السؤال يتطلب أولاً معرفة مدى قدرة العقل في بيان الأمور وإيضاحها وقد علمت أن العقل مر بمراحل في مفاهيم الناس في أوربا.

ـ فمنهم من غلا في تقديسه.

ـ ومنهم من غلا في احتقاره.

ومنهم من اعتمده لكن بشرط أن يقترن بشهادة التجربة له.

ـ ومنهم من استبعده تماما.

وإنما كلها تخبطات جاهلية وإن الله تعالى وفق المؤمنين إلى الحق في تقديره وفي الاستفادة منه.

أما الذين غلوا في تقديسه فقد ارتكبوا خطأ فاحشا إذ تصوروا أنه لا حدود لمعرفته فذهبوا يبنون عليه كل ما يريدون ويحملونه ما لا يحتمل ومن هؤلاء الغلاة العقلانيون الذين أحلوه محل الإله في القداسة وهو صاحب التشريع عندهم إليه يتحاكمون وإليه يفوضون، وقد عرف عن فرقة المعتزلة تأثرهم بهذا الاتجاه فهو عندهم مقدم على النصوص في حال الخلاف لدلالات مرفوضة لا لزوم لذكرها وتقديسه إلى هذا الحد لا شك أنها مكابرة خاطئة إذ المعلوم أن العقل له حد إذا تجاوزه انقلب إلى الجهل.

ـ وأما الذين غلوا في احتقاره وزعموا أنه لا قيمة له في المعرفة بل يجب اتهامه ولا يعول عليه فقد عرفت أن على رأس هؤلاء طغاة رجال الدين لوقوفهم إلى جانب العقل في معرفة العقلانيين ساموهم سوء تعليلات الكتاب المقدس والسبب غير خاف على القارئ فإن الدين النصراني – بعد أن حرفه بولس – أصبح في غاية التناقض والاضطراب بل إن فهمه استعصى على كبار علمائه فإن العقل لم ولن يدرك أن الثلاثة واحد وأن شرب الخمر وأكل الخبز هو شرب لدم المسيح وأكل للحمه وأن المسيح صلب ليكفر عن خطايا البشر من سبق ولادته ومن جاء بعدها وخرافة صكوك الغفران وغير ذلك من الآراء السخيفة الغامضة التي قام عليها الدين النصراني.

ومن هنا قرر رجال الدين بالقوة أن يضحوا بالعقل لتقوية خزعبلات بولس فكانوا كلما أشكل عليهم فهم قضية في دينهم وأبى العقل قبولها سارعوا إلى مقالتهم المشهورة – اتهم عقلك- وكان لزاما أن يحتقروه في مقابل دينهم وهو ما تم بالفعل ولم ينقذه من هذا الاحتقار إلا قيام صحوة العقلانية في أوربا مرة أخرى حينما ضعف سلطان الكنيسة إلا أن هذه الصحوة كانت هوجاء لا تلوي على شيء فهي رج عنيف لكتب العقل وجاءت كالمارد الجبار حرب لا هوادة فيها على الظلم الذي وقع على العقل وعلى الدين الذي اتهمته أنه كان المشجع القوي على إقصاء دور العقل وهو المزلق الخطير الذي سار فيه الهاربون من الدين " الكنيسي".

ـ وأما الذين اعتمدوا العقل لكن بشرط أن تشهد له التجربة فهي نقلة من النقلة التي مر بها العقل في المفهوم الأوربي وكأن هؤلاء أرادوا أن يتوسطوا بين رفض العقل أو اعتماده فاعترفوا بفائدة العقل لكنهم لم يثقوا به تماما فقرنوه بشهادة التجربة له وظهرت هذه النقلة حين بدأ العلماء التجريبيون في استظهار هذا العلم وتطويره.

ولا يخفى ما في هذا المسلك من الغموض إذ العلم التجريبي لا يمكن أن يقوم أو يؤتي ثماره إلا على أساس العقل فهو المدبر والمستنتج وعليه يقوم التفكير وبدونه لا يمكن لأي تجربة أو عمل أن تتم على الوجه الصحيح فكيف ساغ لهم هذا الوقوف في منتصف الطريق؟

<<  <  ج: ص:  >  >>