للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلى قضايا فلسفية ذهنية بحتة، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل، ويثبت ما يثبت منها وينفى ما ينفى بالعقل، فلا تمس الوجدان البشري، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي، فتفقد قيمتها وأما الانحراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الألوهية، وعدم الرجوع فيها إلى المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم مع ما يقوله الآخر.

ولا عجب في ذلك، فما دام (العقل) هو الحكم في هذه القضية، فعقل من؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي تجريد لا وجود له في عالم الواقع! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر. ولكل منهم طريقته الخاصة في (تعقل) الأمور، ولكل منهم (نوازعه) الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز على أمور ويغفل غيرها من الأمور

ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل.

من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلى عصر (سيادة الدين).

وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلى النور. ولكنه في الحقيقة دخل إلى ظلمات حالكة ليس فيها حتى ذلك ((لبريق) الذي تميزت به الفلسفة الإغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقية لذلك البريق، وعن كونه بريقاً هادياً أم مضللاً عن الطريق!.

كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي، واستمد منه اليقين والهدى- في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده- أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصيلة يبدع وينتج، ويمد (الإنسان) بما يحتاج إليه في شؤون (الخلافة) وعمارة الأرض.

ولكن الكنيسة الأوروبية أفسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف على الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية على الأرض، وتخبطت في قضية الألوهية تخبطاً من نوع جديد، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاثة، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله، وشريك لله في تدبير شؤون الكون.

وفضلاً عن ذلك – أو ربما بسبب ذلك – حُجِرَ على العقل البشري أن يعمل وأن يفكر.

فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن (معقولة) ولا مستساغة. فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت. وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالى ظل متفرداً بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون ما لا يحصى من الزمان، ثم إذا هو –فجأة- يوجد كائناً آخر ليكون شريكاً له في الألوهية ومعيناً له في تدبير الكون!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ومن أجل كون هذا العبث (المقدس!) الذي ابتدعته المجامع (المقدسة!) غير معقول ولا مستساغ فقد سخرت الكنيسة (العقل) في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة (فلسفية) مستساغة (أو هم قالوا عنها إنها مستساغة!) وفي الوقت ذاته حجرت على العقل أن يناقشها، لئلا تجر المناقشة إلى القول بأنها غير معقولة على الرغم من أن كل الصناعة (العقلية) وضعت فيها!.

ومن ثم نشأت في الفكر الأوروبي تلك (المسلمات) أو العقائد المفروضة فرضاً التي لا يجوز مناقشتها لا لأنها – في حقيقتها – من الأمور التي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة، ولكن لأنها مناقضة للعقل، ومفروضة عليه فرضاً من قبل رجال الدين، الذين زعموا لأنفسهم حق صياغة العقائد وفرضها على الناس بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين. يجوز فيهم كل شيء حتى إهدار الدم وإزهاق الأرواح.

المصدر:نقض أصول العقلانيين لسليمان الخراشي

<<  <  ج: ص:  >  >>