"فتح دنلوب مدارس حكومية ابتدائية تدرس العلوم "المدنية" وتعلم اللغة الإنجليزية - لغة الاستعمار - وتخرج موظفين كتبه في الدواوين التي يحتلها ويديرها الإنجليز، يقبضون رواتب تعد بالجنيهات لا بالقروش.
"ولم يكن الأمر في حاجة إلى مزيد من الإغراء. فمن ذا الذي يبعث بابنه بعد اليوم إلى الأزهر إلا الفقراء العاجزون عن دفع المصروفات، وهو له المستقبل المضمون في وظيفة الحكومة حيث "يرطن " بلغة السادة المستعمرين؟
"وانصرف الناس القادرون – من ذوات أنفسهم – عن الأزهر، واتجهوا إلى مدارس الحكومة بعد الثورة الأولى التي أثارها الحس الباطني المسلم على هذه المدارس "الكافرة" التي لا تعلم القرآن ولا تعد الدين، وأصبح هؤلاء المتعلمون "طبقة "جديدة تستمد طبقيتها من أنها من أبناء الأسر أولاً، ومن مركزها الاجتماعي في وظيفة الحكومة ثانياً، ومن التشجيع الظاهر والخفي الذي تلقاه من سلطات الاستعمار بعد هذا وذاك "(٩).
وبالإضافة إلى أسلوب التربية السيئ المتعمد لم يشأ دنلوب أن تخلو المدارس تماماً من الدين - ولو فعل ذلك لكان أفضل - بل قرر مادة "دين" لكنه جعلها مادة ثانوية في قيمتها الدراسية ثم أن حصصها كانت "توضع في نهاية اليوم المدرسي وقد كل التلاميذ وملوا وحنوا إلى الانفلات من سجن المدرسة البغيض إلى فسحة الشارع أو رحب البيت، وكانت هذه الحصص توكل إي أسن مدرس في المدرسة، يسعل ويتفل، ويمثل أمام التلاميذ ضعف الحياة الفانية المنهارة ... فيرتبط الدين في وجدانهم بالعجز والفناء والشيخوخة، كما يرتبط بالملل والضجر والنفور"(١٠).
وقرر كذلك - لغاية خبيثة - مادة "لغة عربية" وفي الوقت الذي كان فيه مدرس اللغة الإنجليزية يتقاضى مرتباً شهرياً اثني عشر جنيهاً كاملة كان زميله مدرس اللغة العربية لا يقبض سوى أربعة جنيهات، مما جعل الفرق بينهما في المكانة الاجتماعية شاسعاً، وجعل اللغة العربية في ذاتها موضع الاحتقار والازدراء (١١).
وليس أنكى من ذلك إلا المناهج التي كانت تدرس في مدار الحكومة والتي كانت مملوءة بالطعن والسموم فيما يتعلق بالإسلام وتاريخه وحضارته، ومفعمة بالتقدير والإكبار الذي يصل درجة التقديس فيما يتعلق بأوروبا وتاريخها وحضارتها. ومن بين طلاب هذه المدارس تنتقى نخبة معينة للابتعاث إلى أوروبا وهناك يتم المسخ الكامل لها، لكي تعود إلى بلادها فتقبض على مقاليد الفكر والثقافة وتوجهها حسب إرادة السادة المستعمرين.
....... لم يمض على سيطرة الاستعمار فترة من الزمن حتى كان العالم الإسلامي خاضعاً لتأثير التربية والفكر خضوعاً يتفاوت حسب الأقاليم المختلفة.
ففي تركيا - التي لم تحتل احتلالاً مباشراً - بلغ التأثير ذروته في الردة العقائدية والفكرية العنيفة التي انتهجها أتاتورك لطمس الإسلام بيد من حديد. وفي الهند فقدت الثقافة الإسلامية ريادتها وتقوقعت في المؤسسات الأهلية الصغيرة، وضاع كثير من نشاطها في زحمة الصراع الداخلي والخارجي. أما في العالم العربي فلعل أصدق وصفة لحاله هو ما قاله "توينبي " من أن الصراع الفكري فيه بين الأفكار الغربية والإسلام لم ينتج عملاً غربياً ناجحاً مثل ذلك الذي في تركية وإنما كان نتاجه هجيناً لا هو غربي ولا هو إسلامي (١٣) "